للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

بوجيب قلبه، ويضئ ظلام يومه بوميض روحه، ويذكى خمود عزمه بحرارة دمه، ثم يزهد في المال والجاه والحكم زهادة الحكيم، فيحيا للمبدأ والفكرة، ويموت للقدوة والعبرة؟

على إخلاص مصطفى وإيثار فريد وصدق سعد تسير اليوم هذه القافلة! حتى إذا كذب الرائد، ومكر الدليل، وخامر الحادي، انبلج في جوانب الطريق شعاع من هذه الأرواح البرَّة، فيجلو العمى، ويكشف الضلال، ويفضح المكيدة! وقد ماتوا رضوان الله عليهم ميتة الأنبياء، لا (عمائر) تحجب سماء المدن، ولا (دوائر) تشغل أرض القرى! لقد ملكوا وما تركوا! إنما ورثونا حفظ الكرامة وإن أرهقنا الظلم، وطلب الحرية وإن أجهدنا الطغيان، ورعاية الحق وإن خدعنا الباطل! كانت قافلتنا تسير باسم الله يا دار! تسير على ضوء من مبادئ الزعماء لا يخبو ولا ينكسر، فأصبحنا ذات يوم وإذا سيرها يثقل ونظامها يضطرب! فالتفتنا فإذا عصبة منا تسربلوا بالنار وتدرعوا بالحديد، ثم ولوا وجوههم إلى الخلف، وأخذوا بمؤخر القافلة جذباً وجراً، حتى لتكاد عواتقهم تهى، ومفاصلهم تنسرق، وانبث في الركب دعاة الرجعية وسماسرة الطغيان، يلبسون عليه الأمر، ويوهمونه أن هؤلاء هم القادة، وأن هذه الوجهة وعلى تلك الحال الأليمة لبثنا أربع سنين يتجاذبنا الوراء والأمام، ويتنازعنا النور والظلام، حتى ضعضع الصبر الأبى وثاقة الطاغية فخر صريعاً ليديه وفمه.

تقوض صرح الظلام والظلم أول أمس يا دار! فانتشر ما كان يحجبه من نور، وسرى ما كان يصده من نسيم، وعدنا إلى نهج الحياة شامتين بمن هوَوا من أعاليه وثوَوا تحت أنقاضه!

لقد أبلاه عدل الحوادث كما أبلاك ظلمها، وستبقى على الأبد آثارك المعنوية وآثاره! فأما آثارك فتبقى بركة على الناس، وحجة على البغي، وتفسيراً لمعنى البطولة؛ وأما آثاره فستبقى لعنةً في فم الدهر، ودمامة في وجه التاريخ، ووضاعة في كبر الإنسانية!

ألا فاسلمى على رغم هذا البلى يا الدار! فان لك في كل ذهن صورة، وفي كل نفس ذكرى، وفي كل غمرة من غمرات الجهاد روحاً تمسك القوى، وتلهم الصبر، وتعين على مخاوف الطريق!

احمد حسن الزيات

<<  <  ج:
ص:  >  >>