تعيننا على فهم أسلوب ابن خلدون ومقاصده من كثير من العبارات التي خرج بها على المعاني المألوفة لها مما يحدث التباساً في مسايرته إلى أغراضه إن لم نلم بها قبل قراءة المقدمة، وهذا فضل لم نر بداً من تسجيله للأستاذ ساطع في هذه الكلمة السرية الموجزة. ثم يستطرد بعد هذا فجأة إلى نسب ابن خلدون، ويناقش الدكتور طه حسين فيما ذهب إليه من شك ابن خلدون نفسه في نسبه، كما يناقش الأستاذ عنان أيضاً في هذه المسألة. ونرجو أن تكون لنا عودة بصدد هذه المناقشات
وفي القسم الثاني من الجزء الأول يتناول الأستاذ الجليل مكانة المقدمة في تاريخ (فلسفة التاريخ وعلم الاجتماع) ويحدثنا عن فيكو وآرائه، كما يحدثنا عن مونتسكيو ونظرياته، مقارناً بينهما وبين ابن خلدون، ومكانة ابن خلدون من علم الاجتماع ونظرة علماء أوربا إلى نابغة العرب. والأستاذ ساطع يثير إعجاب القارئ إلى أقصى حد بسعة إطلاعه وجهوده العميقة الموفقة التي بذلها في هذا القسم من أقسام الكتاب، فهو يلفتك إلى عشرات وعشرات من المراجع الهامة التي يضع بين يديك خلاصتها، ويثير فيك فضول الاطلاع بالرجوع إليها، فمن أروع ما أثبته هنا خلاصة ما كتبه (روبرت فلنث) عن ابن خلدون وتفضيله على جميع أنداده ممن كتبوا في فلسفة التاريخ. ولا يفوتنا ونحن نكتب هذه اللمحة، أن نعارض بشدة ما أورده (فيكو) من أن العبرانيين، ثم الكلدان، ثم الأسكيت، ثم الفينيقيين أقدم جميعاً من المصريين. . . لقد بطلت هذه النظرية أتم البطلان، وأثبتت مجموعة البداري الأثرية التي يرجع عهدها إلى ما قبل خمسة عشر ألف سنة، كما أثبتت مئات الشواهد التاريخية الأخرى أن المصريين هم أقدم أمة على وجه الأرض
ويتناول القسم الثالث من الجزء الأول (آراء ابن خلدون ونظرياته) فيحدثنا عن موضوع التاريخ ومهمة المؤرخ، وطبيعة الاجتماع ومنشأ الحكم، والقسر الاجتماعي والتقليد وطبائع الأمم وسجاياها، ونظرية العصبية والخط والكتابة. وقد ذكرتنا معظم هذه الفصول برأي لنا قديم نشرناه عن تلمذة ابن خلدون لإخوان الصفا في رسائلهم المشهورة، وانتفاعه بما جاء في هذه الرسائل، ولا سيما عن تأثر طبائع الأمم وسجاياها ببيئة الإقليم ومناخه وهوائه ومحصولاته وأثر الجوع والخصب في أخلاق الشعوب ودياناتها، كما ألمعنا إلى أوجه الشبه بين ما قرره إخوان الصفاء في رسائلهم عن الزهد ودرجات الناس، وعلاقات أولياء