للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

المجادل عليه ولو كان الحق في جانبه، فإن أحاديث الناس في مجالسهم ليس فيها ما يزكي اللجاجة التي تدعو إلى الخصومات. ويستطيع الجليس إذا خشي أن يُعدّ سكوته عن الجدل واللجاجة مشاركة في خطل الرأي أو إثم الغيبة أن يترك ذلك المجلس وأن ينصرف عنه إلى غيره بعد إعلان رأيه في رفق وتؤدة وحلم

وبعض الناس قد طُبع على أن يجادل لنصرة ما يراه حقاً حتى ولو أدت المجادلة إلى المهاترة أو المضاربة، وكأنما يشعر شعوراً غامضاً أن مصير الدنيا وبقاء الكون موقوف على انتصاره لما يراه حقاً، وقد يكون هذا المجادل اللجوج صادق النية مخلصاً في شعوره كأنه لم ير كيف أن العلماء والفلاسفة يأتون كل جيل أو كل عصر بآراء تخالف ما أتى به أسلافهم، والحياة قائمة بالرغم من خطأ السابقين أو اللاحقين، والسماء لم تنهد ولم تسقط على الأرض والدنيا على حالها يخالطها كثير من الخطأ، فلأي أمر إذاً يتضارب الناس في مجالسهم أو يتخاصمون من أجل اللجاجة والجدل

على أن في الناس من يحترف الجدل مكراً ودهاء كي يكون اعترافه بأصالة رأي مجادله أوقع وكي يكون انهزامه في الجدل أحب إلى جليسه الذي يجادله، وكي يفهم ذلك الجليس أن قوة بيانه ورجاحة حجته وفرط ذكائه هي الصفات العالية والهبات النفيسة النادرة التي مكنته من إقناع ذلك المجادل الذي إنما يجادل كي ينهزم وكي يمدح صفات جليسه العقلية تقرباً إليه لحاجة في نفسه، وهذه وسيلة من وسائل الدنيويين الذين يريدون النجاح في الحياة، وقد شاهدنا مثل هذا الجدل والاقتناع الكاذب في حديث الرؤساء والمرءوسين وفي حديث الوجهاء ومن هم أقل منهم منزلة

وهناك نوع آخر من الجدل يثيره خبيث يعرف أن جليسه عصبي المزاج ينفعل إذا جادل فيحب أن يعبث به وأن يضحك من انفعاله، وأن يتخذه لهواً وقد يكون رأيه في الأمر الذي يجادل فيه مثل رأي ذلك العصبي المزاج ولكنه يخالفه كي يتفكه بضجيجه وصراخه وحركاته حتى إذا نال بغيته من الفكاهة أقرّ برجحان رأي ذلك العصبي المزاج فينال نوعاً آخر من الفكاهة إذا رأى عظم سروره وخمود ثورة أعصابه.

وقد شاهدنا نوعاً آخر من الجدل إذ يرى أحد الجليسين أن جليسه سفيه لا يريد توضيح الحق بالجدل وإنما يريد الظفر في الحديث بأية وسيلة، ولا يترك جليسه إذا سكت بل كلما

<<  <  ج:
ص:  >  >>