بجانب الذهن البارد الجاف. وهناك لحظات تنفض عنها ذلك السكون البارد والوعي المتقيد؛ وتنطلق رفافة مشرقة، أو دافقة متوهجة، أو ساربة تائهة، أو نشوانة حالمة. . وفي كل اللحظات الفنية الفائقة لا تجد إلا التعبير الشعري، يتسق بإيقاعه القوي، وصوره، وظلاله، مع هذه الحظات الملاء الوضاء)
في هذا العالم الذي وصفت سماته نلتقي بالشاعر محمود أبو الوفا صاحب الأنفاس المحترقة. نلتقي به شاعرا كله شاعر يخلص من اصطناع القوالب، واصطناع الأفكار، واصطناع الأحاسيس، واصطناع التعبير، ويلقانا بروحه كما خلقه الله. يلقانا بلا تكلف ولا تجمع ولا غشاء. يلقانا كما تلقانا الزهرة لتفرغ لدينا عبيرها وعطرها وتمضي! ويحدثنا أبو الوفا عن نفسه وحبه وآلامه ونجواه. . . أو يحدثنا عن الإنسانية والوطن والشعب. . . فهذا هو أبو الوفا الشاعر الغنائي المرفرف، عذب الروح حتى وهو يتجرع صاب الحياة، سمح الخليفة حتى وهو يحرق الأنفاس
استمع إليه يغني (في انتظار الصباح)
جدد لي الأقداح ... يا ساقي الراح
على أرى في الراح ... أطياف أفراحي
في مزهري ألحان ... أخشى أغنيها
أخشى على الأوتار ... من حولها ما فيها
يا مزهر الأقدار غن ... بها غني
واشرح على الأطيار ... ما غاب من فني
لكل يوم شراب ... لابد من كأسه
وكل معنى العذاب ... في لون إحساسه
من ذا يرد الصواب ... للدهر في ناسه
للغاب يا ابن الغاب ... اهرب فداك اللواح
تبا لضعف التراب ... أغرى عليه الرياح
لولاي في ذا الإهاب ... ما هيض مني الجناح
لا تسألوا يا شهود ... عن حكمة الأقدار