ولكن الشاعر لا يأبه لما يقولون، فقد عقد العزم بادئ الرأي على رفض أية وظيفة في الحكومة، كما رفض الالتحاق بالكنيسة، وإن كان قد درس اللاهوت؛ وليس يعنيه أن يبين لهم وجهة نظره، فأكبر الظن أنهم لن يقروه عليها؛ وهل فيهم من يقره على إقامته في الريف، حيث تكون له عزلة يستريح فيها من ضجيج المدينة ولهوها وزحمتها ليتفرغ للقراءة والدرس، فيستدرك ما فوتت عليه قراءته الكلية من كتب، ويستكمل ثقافته في الإغريقية واللاتينية، فهما عدته لما يتهيأ له من رسالة؟ وهو إنما يزداد شعورا بأنه يتهيأ لرسالة، وأن عليه أن يستزيد من المعرفة والحكمة ليكون أهلا لها لما يستشرف له.
ذلك كان مأربه من إقامته في الريف، فهمه في الحياة أبعد من كسب القوت وأجل من ذلك شأناً، وما يرى العلم والحكمة بل والفضيلة نفسها إلا وسائل يتوسل بها إلى ما يبتغي من غاية؛ وإنه لواثق إن الناس ينكرون عليه ذلك، وأنهم يعدونه حلماً من الحلم يوسوس به الشباب في صدر شاعر سحره عن نفسه، وأذهله عن الصواب حب الشعر. . . وماذا عسى أن يقولوا غير ذلك وليس فيهم من يصدق أن الشعر مطلب ترصد له الحياة، وغاية يحتقر في سبيلها المال والجاه!
وكان أبوه يطمع أن يلتحق الفتى بالكنيسة، ولكنه منذ صغره لا يحب أن يحمله على ما لا يريد، فحسبه أن يمني بذلك نفسه، على أنه كان خليقاً أن يدرك بعد أمنيته عن التحقيق، فهو أعم الناس بابنه، وأخبرهم بنوازعه وآراءه.
كانت صفات ملتن تحول بينه وبين الكنيسة، فإباءه ونزوعه إلى الحرية لا يسمحان أن يتقيد بقيد، ورغبته للتفرغ لقراءته والتهيؤ لرسالته يبتعدان به على أن يشغل نفسه بغيرهما، وإنه فضلًا عن ذلك ليحس في نفسه الكراهة لرجال الدين، ويشمئز قلبه إذا ذكرت عقيدة روما الكاثوليكية، فهي عنده علة التعصب وأصل تحكم القساوسة واستبدادهم وجمودهم؛ وهو فتى يعشق الحرية الفكرية وحرية العمل، ولا يستطيع أن يتصور كيف تخلو الحياة منهما وتسمى مع ذلك (حياة)! ولا نجد ما يوضح رأيه في رفض الالتحاق بالكنيسة خيراً مما كتبه بعد ذلك ببضع سنين عن الكنيسة وأشار فيه إلى ما نحن بصدده قال: (أما عن الكنيسة التي أزمع إعدادي لخدمتها منذ طفولتي حتى بلغت مرحلة من مراحل نضجي فإني مذ رأيت مبلغ ما دخل فيها من طغيان، وأن من يلتحق بها يجب أن