يكون عبداً، وأن يقسم على ذلك قسماً، وجدت خيراً لي أن أفضل الصمت الذي ليس فيه ما يعاب على الوظيفة الكلامية المقدسة التي تشترى بالقسم سلفاً، وبالعبودية وتبدأ بهما!)
ولم يكن ملتن حتى ذلك اليوم بيوريتاني المذهب، وإن كانت عفته وطهره وترفعه عن الدنايا تمثل خلق البيوريتانية، وإن لم يقصد؛ أما عن مذهبه الديني، فكان حتى ذلك الوقت يتبع الكنيسة الإنجليزية الحرة، دون أن يعني بتحديد ما فيما يتعلق بقواعد مذهبها؛ ولقد كان يكره من هذه الكنيسة ما كان يكرهه من كنيسة روما من التعصب لرأيها والرقابة على المذاهب الأخرى وعلى المطبوعات؛ وأبغضت نفسه طريقة كبير أساقفتها (لود) في تعقبه مخالفيه والتجسس عليهم ورفع أسمائهم إلى الملك؛ ويعد ملتن في هذا الاتجاه كذلك أقرب إلى البيوريتانية في ناحية من نواحيها وإن لم يرمي إلى ذلك.
وأن شخصاً هذه نظريته إلى الكنيسة ورجالها لخليق ألا يقبل مركزاً دينياً مهماً منى أبوه نفسه أن يقبل، ومهما ألح عليه أصحابه أن يفعل!
أما القانون وقد كانت لحرفة أبيه صلة به، فقد فكر فيه عقب تركه الكلية، ولكنه ما لبث أن انصرف عنه؛ وأما الوظيفة الحكومية، فلم تكن احب إلى نفسه من وظيفة الكنيسة، وما ترتاح نفسه في الواقع، ولا يتجه قلبه وعقله إلا إلى الشعر، فلتكن له من عزلته في هورتون فرصة أجمل بها وأعظم من فرصة يتهيأ فيها لما يريد!
وعكف الفتى على محرابه في هورتون، فما يبرحها إلى لندن إلا لماماً ليشتري بعض الكتب أو ليستمع إلى الموسيقى أو يستعين بمن يفهمه بعض مسائل الرياضة، وألف حياة الريف وأستروح نسيمه، واستغرقت في هدوءه نفسه واستمتع بصفائه حسه، وتقلب في مشاهده بصره في بكره وآصاله وفي متوع نهاره، وإذا كان غيره من الشعراء قد تغنى بحياة الريف ولم يره، فلسوف يحيا ابن المدينة حياة الريف حقبة من عمره، ثم يمسها مسة العبقرية فيغنيها ويصور مشاهدها ويضيف بذلك إلى أدب لغته وفنها ما تباهي به وتعتز!
كان يقضي كثيراً من ساعات نهاره بين كتبه، وكان يقوم الليل كدأبه منذ سن العاشرة، وقد قوى جلده على القراءة واشتد صبره، ويعجب المقيمون في القرية من ذوي الثقافة من هذا الشاب الذي تخرج من الجامعة، ولا يزال يكب على الكتب ليله ونهاره كأنما هو مقبل على امتحان!