أما أهل القرية فانهم لم يألفوا أن يقيم بينهم إقامة متصلة شاب من هذا الطراز؛ وقد ظنوا أول الأمر انه لاعب يستجم، أو زائر لن يلبث حتى يبرح القرية إلى حيث يكون مقام أمثاله في المدينة؛ وكانت ترمقه عيون فتيان القرية وصباياها في إعجاب ومحبة، فهم حيال شاب عليه فوق رونق الشباب وغضارته روعة الجمال وسيماء الوقار والاحتشام، وإنهم ليحسون في صوته عذوبة الموسيقى، ويرون في محياه إمارات النبل والأريحية والكرم؛ وما يطمع القرويات منه أكثر من أن يرينه ويراهن، وإن كان له في كل قلب محبة، وما عسى أن تنتظر صبايا القرية فوق ذلك من هذا الشاب الذي يتهامسن بأنه تخرج من الجامعة وأنه من ذوي المحتد؟ على أنه فضلا عن ذلك كان في شغل عنهن بعرائس شعره!
وإنه لأشد بالطبيعة ولوعا يقلب في مشاهدها بصره، ولكم يرى في مجالي القرية مما يشرح صدره ويهز قلبه؛ وكانت تعجبه الوجوه القرويات الوضاء لما توحيه سذاجتها من طهر، كما كان يطرب لأغاني الرعاة ويحس ما فيها من المعاني والأخيلة والصور القروية، التي يراها الآن تتصل بنفسه صلة قوية بتأثير بيئته الجديدة؛ وتبعث تلك الأغاني ما كمن في ذاكرته من أشعار أوفيد والحان سبنسر مما يتصل بالحياة القروية فيرجع إليها ويعيد في هذا الجو قراءتها فيستشعر من جمالها ويستبين من معانيها أكثر مما أتفق له من قبل؛ وهكذا يعيش عيشة الريف ويقرأ أدب الريف، فيكون لذلك أثره العميق في خياله وحسه، ولا يلبث أن تتضح صبغته في فنه!
ولكن الموثوق الشيخ وقد ركن إلى الراحة في القرية لا يزال يأمل أن يراجع ابنه نفسه فيرضى بوظيفة من الوظائف، فأنه ما يرى حياته هذه إلا ضربا من البطالة لا يسيغها عقله ولا يحبها لابنه، ويدأب الرجل على الشكوى إلى جيرانه ويصل نبأ شكواه إلى ابنه فتكدر خاطره حينا، لأنه يكره أن يغضب أباه ويكره في الوقت نفسه أن ينصرف عما يتهيأ له من رسالة تهجس بها نفسه.
ويرد الفتى على أبيه بقصيدة لاتينية جميلة فيتوسل إليه أن يدعه فيما هو فيه، ويرجو منه ألا يحتقر الشعر ويتساءل كيف يدهش أبوه وهو الموسيقي النابه من أن يكون ابنه شاعراً؟ لقد قسم أبولو إله الموسيقى والشعر موهبته بين الأب وابنه؛ والموسيقى والشعر صنوان، والشعر أقوى مواهب الإنسان دلالة على قداسة عنصره؛ وإنما يتظاهر الأب فحسب بأنه