للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

يكره الشعر، ويحتقر الشاعر في قصيدته الثراء والمادة مما يدل على إن أباه قد أشار إلى رغبته في أن يعمل على كسبهما ويستطرد موجها الخطاب إلى أبيه فيقول: (يا أبت لقد عودتني منذ الصغر أن أطلب المعرفة من أجل المعرفة فكيف تطلب اليّ أن أحفل بالمال، وأنت دون الناس جميعاً من لا يخلق ذلك به. يا أبت إن الوالد الذي لا يقتصر على أن يعلم ابنه اللاتينية فيعلمه معها الإغريقية والعبرية والفرنسية والطليانية والفلك وعلوم الطبيعة، لا يسأله أن يجعل كسب المال غرضه من الحياة، يا أبت إني اخترت ما هو خير بذلك وكأن بوحيك ما اخترت. وإني أعلم انك تقر ذلك بقلبك وتشاطرني الرأي فيه. وعلى هذا فما دمت أيها الوالد العزيز لا أستطيع أن أقابل جميلك بمثله، فإني أرجو أن تكتفي مني بالاعتراف به وببقائه أبدا في ذاكرتي؛ وإذا كان لأشعاري الفنية أن تتطاول إلى الأمل في الخلود، فسوف يكون لي من اسمك موضع لشعري).

وأكبر الظن أنه قد أصلح بهذه القصيدة ما بينه وبين أبيه، فلم يعد أبوه يشكو من إقامته في هورتون، ولعل الرجل إنما صالح نفسه على هذا الوضع إذ لم يجد لشكاياته من جدوى ولم يهتد في إقناع ابنه إلى وسيلة.

وظفر ملتن بالهدوء في عزلته الريفية الجميلة، واتفق له جو شعري ساحر،، ندر أن اتفق مثله لغيره من الشعراء في مستهل عهدهم بالشعر، فما نعلم منهم إلا من لقي أول أمره عنتا وضيقا كثيرين، وانهم ليبتلون بالعذاب من الحياة ومن أنفسهم، وما كان لينعم ملتن بما نعم به لولا زكانة أبيه وسماحة طبعه وإدراكه قيمة الفن وإيمانه به.

ولكن عبئا آخر يهبط على الشاعر في عزلته من صاحب لم يعرف اسمه، فقد عثر فيما بعد في أوراق ملتن في تلك الحقبة على ورقتين بهما سطور من رسالة كان يرد بها على كاتب صاحبه، وقد جاء فيه أنه لا يرضى لملتن أن يقضي سني عمره حالما في عزلته شأن أنديميون مع القمر بينما يمضي الزمن مسرعا. ورد ملتن بأنه يقضي أرب نفسه من الثقافة والمعرفة ليكون أرفع مما هو قدرا، ولولا أنه يؤمن بهذا الذي يأخذ نفسه به في غير رفق لما وقف مصمما في وجهه كثير من غرور الحياة كالطموح إلى المناصب والرغبة في جمع المال، والميل إلى البناء بزوجة وتكوين أسرة، والإقامة في مسكن خاص. ويرسل ملتن إلى صاحبه تلك القصيدة التي نظمها وهو في الجامعة واستغل فيها ثمار جهوده ليدرأ

<<  <  ج:
ص:  >  >>