للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

بها عن نفسه تهمة التبطل والخمول.

وأقبل ملتن على القراءة إقبالا عظيما؛ وكان أكثر همه منصرفا إلى الشعر في أشهر آداب الأمم، وخاصة الإغريق والرومان، واطلع إلى جانب ذلك على الأدب الفرنسي والأدب الإيطالي، وقرأ الفلسفة القديمة وخاصة أفلاطون، وفلسفة العصور الوسطى كما قرأ التاريخ يستخرج منه الحكمة والعبرة؛ وعنى بعصر شكسبير عنايته بعصر بركليس، فكان أكثر وقته مخصصا لهما وأحب هوميروس وفرجيل وأوفيد ودانتي حبا لا يضارعه إلا حبه لشكسبير وسبنسر، وكان ولعه عظيما بما استحدث في العصر الأليزابيثي من صور البيان، وما تولد فيه من مشرق اللفظ وبديعه، وما أفتنه المفتون من أساليب الوصف والغناء؛ وأعانه على استيعاب ذلك سليقة فنية خالصة، وروح إلى الفن وجماله متعطشة، وعبقرية طامحة توحي إليه أن يجري في مضمار هؤلاء العباقرة والأفذاذ وألا يتخلف عنهم في شيء.

إما عن أدب عصره فالأرجح أنه قليلا ما كان يتناول بعض آثار ذلك العصر، لأنه قليل الإشارة إليها فيما كتب قليل التأثر بها، ولعل مرد ذلك إلى انه حصر ثقته في الروائع السالفة من أدب العالم، ولم يجد ما يكافئها إلا آثار شكسبير وأفذاذ عصره.

ولم يك يقرأ ملتن قراءة عجلان لا يقع على مطلب حتى يطير عنه إلى غيره، وإنما كان يقرأ قراءة المتثبت المتقصي، الذي يعمل فكره ويقدح ذهنه في غير ملل أو نصب؛ يتكئ على نفسه حتى ينفذ إلى أعماق ما يقرأ، ولن يبرح ينشره ويطويه ويقلبه على أوجه الرأي جميعا حتى يطمئن إليه، ويقضي في أمره بالقبول أو بالرفض. ولقد عثر سنة ١٨٧٤ على كراسة من مخلفات ملتن بها ملاحظات واقتباسات من نحو ثمانين مؤلفا دونها أثناء قراءته ومنها يقف المرء على مثال لكدحه وصبره على عناء الدرس.

على هذا النحو قضى ملتن ست سنوات في هورتون؛ وما تظن إن شاعرا قبله أو بعده اتسع أفق ثقافته أكثر مما اتسع أفقه، وما نظن إن أحدا من الناس شاعرا كان أو غير شاعر قد أعد نفسه لما يريد من أمر بما هو أقوى مما أعد به هذا الفتى للشعر نفسه

وكان يزور المدينة أحيانا فلا تغريه حياتها عما وطن عليه النفس من الجد، وأقصى ما كان يقضيه فيها إذا حل بها بضعة أسابيع، ولكن ذلك كان نادرا فإن معظم إقامته فيها كانت لا

<<  <  ج:
ص:  >  >>