للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الغرابة، فأدارت رأسها عنه وما روت غلة، وقصدت إلى سيارة تنتظر إلى جانب الطريق، فأدرك من أول وهلة أن صورته اشتبهت عليها وعلت لذلك فمه ابتسامة، وأراد أن يستوثق من رأيه فألقى بنظرة إلى السيارة - وكان جاوزها بأمتار - فرآها تتابعه بنظرتها تعلو وجهها آي الحيرة والغرابة. فغمرته موجة انفعال مضطرب لذيذ وتعثر بأذيال الارتباك والحيرة. ثم تحركت السيارة مندفعة في الاتجاه الذي يسير فيها وما تزال صاحبتها ترنو إليه خلل زجاج النافذة بنظرة تحير بماذا يصفها. . . ودية! حنون؟. . . حتى باعدت بينهما المسافة. . .

وعجب الأستاذ أيما عجب، على أن عجبه كان شيئاً يسيراً إلى ما أحس به ساعتئذ من ثورة الوجدان، وكانت الفتاة شابة حسناء مدمجة الخلق، مرتوية الساقين، فاتنة القسمات، يزين وجهها عينان زرقاوان لنظرتهما وقع السحر في الحواس والقلب والأعصاب. فانبعث في قلبه خفقان واضطراب، وشعر بنشوة رائعة، ثم لسعته حسرة أليمة، حسرة محروم طال عهده بالحرمان وكانت حياته في الواقع خالية من الحب مثل كهف رطب لا تزوره الشمس، لأن تفانيه في طلب العلم لم يدع له وقتاً لشيء سواه، ولعيبين طبيعيين كبرا في وهمه واشتدا على نفسه، إذ كان يترامى إلى أذنيه أنه ثقيل الظل، وكان إلى هذا عيباً حصوراً لا يكاد يبين، فلم يكن في وسعه قط أن يحسن خطاب فتاة فضلاً عن أن يغازلها. ودعاه هذا وذاك إلى النفور من الحسان. وإلى ما يشبه الخوف منهن. وحز لذلك الألم في نفسه وسكب في قلبه امتعاضاً ومرارة، فتبدى عليه الجفاء والوحشة، واضطرب عهداً طويلاً يائساً بين الرغبة في الحب والخوف من المرأة، والتشوف إلى النساء والحقد عليهن. فكانت تلك النظرة الحلوة أول نسمة تهب عليه من دنيا الوجدان فترتوي بها نفسه الظمآنة ويندى بها قلبه الجاف ولكنه ارتواء كالظمأ وندى أشد حرقة من الجفاف. فتحير وتعجب وتساءل وهو يقلب كفيه: ترى ما خطب هذه الفتاة؟. . . وما معنى هذه النظرة الفاتنة التي أذابت الوجد والهيام والحنو المتجمدة في قرارة نفسه؟. . . إنه لا يعرفها على وجه اليقين ولا يذكر أنه رآها من قبل، وهي بغير ريب لا تعرفه أيضاً، فلا هي قريبة ولا جارة ولا طالبة بكلية العلوم، ولعله التبس عليها شبهه، ولكن كيف طال بها الشك تلك المدة السعيدة التي أدامت فيها النظر إليه؟!. . . ومضى يتفكر تنقله الحيرة من فرض إلى فرض وقد

<<  <  ج:
ص:  >  >>