رأيت جموعاً غفيرة من الخلق يستقبلون الباب خارجين، في ثياب بيض وعمائم بيض كأنها غمائم تزجّيه الرياح. فوقفت وسألت أول من لقيت: ما الذي جمع الناس؟ قال: إنه الشيخ أيها الفتى. قلت: فمن الشيخ يرحمك الله؟ قال: غريب والله، إنه الشيخ أبو جعفر الطبري إمام أهل السُنّة، وشيخ المفسرين، وعمدة المحدثين، وثقة المؤرخين، ردّ الله غربتك يا فتى. قلت له: جزاك الله خيراً ورضى عنك وأرضاك، أتراني أدركه الساعة؟ قال: هو رهين هذا المسجد لا يبرحه، فادخل تلقه.
ولم أزل أحتال للدخول وأمواج الناس تتقاذفني عن الباب حتى كدت أيأس من لقاء الشيخ، وظننت أني لو بقيت دهراً لم تنقطع هذه الأمواج المتدفقة من باب المسجد. وظللت أزاحم حتى بلغ مني الجهد، وانتهيت إلى صحن المسجد وقد انفضّ جمع الناس، ولم يبقِ فيه غيري. وجعلت أسير وأتلفت وأنظر في مقصورة بعد مقصورة، حتى رأيت بصيصاً من ضوء في مقصورة بعيدة، فلما وافيتها، وكانت الشمس قد آذنت بغروب، رأيت مسرجة معلقة وحجرة واسعة، وآلافاً مؤلفة من الكتب قد غطت الجدران. فاستأذنت ثم سلمت فلم أسمع مجيباً، فدخلت، وإذا في جانب منها شيخ ضافي اللحية أبيضها جميل الوجه، قد اتكأ وأخذته سنة من نوم، وقد مالت عمامته عن جبين يلمع كأنه سُنَّة مصقولة من ذهب، وبين يديه كتب وأوراق مبعثرة أو مركومة ومحابر وأقلام.
سرقت الخطو حتى قمت بين يدي هذا الشيخ النائم، ثم جلست وجعلت أقدم ثم أحجم أريد أن أمسك شيئاً من ورقه لأقرأه، ثم عزمت فأخذت ما وقعت عليه يدي، فإذا هو تتمة تاريخ أبي جعفر الطبري الذي كان سماه (تاريخ الأمم والملوك)، وكان الجزء الذي فيه يبدأ من سنة خمس وستين وثلاثمائة بعد الألف من الهجرة (سنة ١٣٦٥ هجرية الموافق لسنة ١٩٤٦م)، فانطلقت أقرأ تاريخ هذا الزمن وما بعده. وعسير أن أنقل لك كلُّ ما قرأت، فسأختار لك منها نتفاً تغنى، كما كتبها الإمام أبو جعفر، وبعضها منقولة بتمامه، وبعضهما اختصرت منه حتى لا أطيل عليك. قال أبو جعفر:
(ثم دخلت سنة خمس وستين وثلاثمائة بعد الألف)
ذكر ما كان فيها من الأحداث:
فمن ذلك ما كان من إجماع المجلسين الأمريكيين على فتح أبواب فلسطين لشذّاذ المهاجرين