للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

هذا الاتفاق هو وجود قيادة روحية في كل وثبة من وثبات الأمم والجماعات. قيادة تهتف للجماهير بنسيان الذات الفانية، وتضحية الرغبات القريبة. وتشير إليها نحو هدف آخر أبعد، وأفق آخر أرفع. وكلما بعد الهدف، وارتفع الأفق، كانت الاستجابة أكبر، والتلبية أسرع، والقفزة أعلى، والخطوة أوسع. وكلما كانت التضحية المطلوبة أوسع مدى، كان الدعاء أسرع إجابة.

فإذا كانت تضحية رغائب فرد في سبيل جماعة محدودة، كان عدد الملبين للدعوة قليلاً. وإذا كانت تضحية جماعات في سبيل أمة على نسق الدعوات الوطنية - كانت التلبية أوسع. فأما إذا كانت تضحية الأفراد والجماعات والأمم في سبيل فكرة إنسانية ومبدأ أسمى، فإن الصدى يكون أبعد، والمدى يكون أفسح، والامتداد يكون أقوى.

هكذا كانت المسيحية، ثم هكذا كان الإسلام.

كانت المسيحية تطهيراً للنفس الإنسانية من رغائبها وشهواتها واستعلاء على اللذائذ الشخصية بالحرمان والتزهد، وفناء للذات الفرد في حب يسوع المخلص. . . لهذا صمدت للتعذيب والاضطهاد والاستشهاد. صمدت لبطش الدولة الرومانية، حتى استجابت لها الدولة الرومانية وظلت تصمد لما هو أقوى من الدولة وجندها وبطشها. . . تصمد للغريزة والشهوة والأنانية وهي أقوى من كل قوة. ظلت تصمد إلى أن نفدت الطاقة، وقل الرصيد. وطغت المراسم والشعائر على العقيدة والمشاعر. فاشترى رجال الدين بدينهم ثمناً قليلاً. وأنفلت الأفراد إلى أنفسهم وذواتهم عاكفين عليها. ووقف نمو المسيحية، أو زادت شخوصاً ولم تزد ضمائر. . . اللهم إلا الفلتات التي كان ينبغ فيها أفراد ممن يدعون الناس إلى السماء فيستجيبون لهم بقدر ما في أرواحهم من رصيد. لم يرتفع مرة إلى القمة الأولى.

وهكذا كان الإسلام تجميعاً للطاقة الإنسانية كلها، وتوجيهاً لها إلى الهدف الأعلى، إلى معنى الإنسانية الأسمى: المساواة والحرية والكرامة والعمل والرحمة والاستشهاد، وفي كل واحدة من هؤلاء كان يرتفع بالنفس الإنسانية إلى آفاقها العليا.

كان يرتفع بها في (المساواة) إلى نسيان النعرة الشخصية، والنعرة المحلية، والنعرة القومية، وجميع النعرات التي تمزق الإنسانية طوائف ونحلا، وتغرس العداوات والبغضاء وتعوق النمو البشري والتقدم الإنساني.

<<  <  ج:
ص:  >  >>