للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

فاعلموا أنكم بين اثنتين لا ثالثة لهما: إما أن تنزلوا عن رأيكم، وتحتسبوا لدى (الجدل المجرد) جهدكم، وإما أن تلجوا في مذهبكم - وأعيذكم من اللجاجة في الباطل حين يكشف عنه غطاؤه - فتزعموا أن اللغة الألمانية لغة متبدية، وأن الجنس الألماني لا يزال في دور من أدوار البداوة. ويا لها إذن من جرأة على الواقع ومجازفة بالقول! إذ ما كان لأحد أن يذهب به وهمه هذا المذهب، فاللغة الألمانية هي - فيما يعترف الناس جميعاً - لغة الحضارة في أوسع معانيها، وأكمل ما عرف من صورها. . .)

ثم أخذ صاحبنا يمد شعب الحديث في كل مذاهبه الممكنة، ويفيض في بيان هذه الحضارة وتمجيد أصحابها، ويستشهد من هنا وهناك، في حماسة متقدة، وبلاغة خلابة، حتى لحسبناه - ونستغفر الله - داعية من دعاة النازي، فهو يجرب فينا أساليبه، ويتخذ منا موضوعاً له. وهكذا لم يلبث الميدان أن تحول - على غير إرادتنا - من بحث لغوي ومدارسة علمية، إلى جدل سياسي، يهدأ ويفور، ويعتدل ويجور؛ وبقيت المسألة الأولى في موضعها حتى اليوم - فيما أعلم - لم يبتّ فيها برأي، ولم ينته فيها إلى مقطع.

انفض هذا المجلس ومضى كل ما فيه، إلا من هذه النفحة الروحية الخالدة - التي أودعها الله فينا - وأطلقنا عليها كلمة (الذاكرة)، فقد أضفت عليه معنى الخلود، ومضت به تختزنه بين ما تختزن، مما يعمل دائباً في تكوين شخصية هذا الإنسان الظاهرة والمستكنة، والحاضرة والمستقبلة؛ حتى إذا هاجته الحوادث، واستثارته الأشباه والنظائر، برز من مكمنه، وأخذ يؤثر في خيالنا، كما تؤثر المحسوسات في حواسنا.

وأنا منذ الحرب القائمة لا تزال الذاكرة تطلق لي صورة ذلك المجلس، وما تفتأ هذه الصورة تختال لي، وترود أمامي، وتتبرج لعقلي. فإذا بي أسائل نفسي: أيكون الشعب الألماني لا يزال يعاني البداوة في دور من أدوارها؟ أليست هذه المظاهر المختلفة في مسلكه من الحرب وإثارتها، وفي تقديره للحرية الشخصية وقيمتها، وفي تلك الدعاوى العريضة التي لا يفتأ يقررها ويلج فيها، وفي غير ذلك من الملابسات التي تنتظم الماضي والحاضر، أليس كل ذلك أشبه بالعقلية البدوية؟ وهذه المظاهر الفخمة المتطاولة التي تزعم للناس أنها واهبة الحضارة، ورافعة بنيانها، ومثبتة أركانها؟ ألا يمكن أن يكون وراءها روح بدوية غلابة متغلغلة في العقلية الألمانية، هي التي تنهج لهذا الشعب سبيلها، وتفرض

<<  <  ج:
ص:  >  >>