إلا مزق مردمه، وخلقان بالية. يرنو بعينه إلى الناس تارة، وينظر إلى المسجد أخرى، فيقرأ فيه تاريخاً جليلاً، يقرؤه في هذه القبة الباذخة، قبة النسر، وهي (من أعجب مباني الدنيا، ومن أي جهة استقبلت المدينة بدت لك قبة النسر، ذاهبة في الهواء، منيفة على جميع مباني البلد)(وليس في دمشق شيء أعلى ولا أبهى منظراً منها)
وهذه المنارة العالية التي يسميها الناس (منارة عيسى) لما جاء في الحديث أن عيسى عليه السلام ينزل على المنارة البيضاء شرقي دمشق، ويعجب من سموقها وارتفاعها. وهذه المنارة العربية التي بناها المسلمون، فأجادوا بنيانها، ووضعوا فيها العجائب من براعة الزخرف، ودقة النحت، والضبط والأحكام. والمنارة الشمالية (منارة العروس) وقد ازينت وأوقدت فيها المصابيح، وقام في شرفتها المطلة على الصحن (المؤقت) ليعلن دخول العشاء ودخل المسجد قروي له مسألة. فسأل عن مجلس المفتين حتى دل عليه عند قبة عائشة فجاء فعرض عليهم مسألته، فلم يجد عند واحد منهم جوابها. فذهب يدور على الفقهاء والمحدثين يسألهم، فلم يفز منهم بطائل، فيئس منهم وهم بالخروج من المسجد. . . والفقير ينظر إليه، ويعجب من حاله وحالهم. وعز عليه أن ينصرف آيساً، فأشار إليه. فلما جاءه قال: اعرض علي مسألتك. . .
فضحك القروي، وصاح: انظروا يا قوم إلى هذا المجنون! أنه يجيبني عن مسألتي، وقد أعجزت المفتين والفقهاء وأصحاب الحديث! فأقبل الناس على الصوت، وطفقوا يتكلمون، فقال قائل: دعه فانه مجنون. . وقائل: لا عليك أن تسأله فلعل عنده علماً. . . وقائل: سله واحمل جوابه إلى المفتين، فانظر ما هم قائلون؟
ثم سكتوا، وسكت كل من في المسجد، وانقطعت أصوات القراء والمدرسين والذاكرين، ولم يبق فيهم متكلم، لأنها قد تكلمت فوق رؤوسهم النبوة، وسمعوا:(الله أكبر. .) تدوي في نواحي المسجد، تهبط عليهم من المآذن كأنما هي هابطة من السماء، فيها روعة الوحي، وجلال الدين، وجمال الإيمان. . . فتقوضت المجالس، ورصت الصفوف، وتحاذت المناكب، وقال الإمام: الله أكبر. . . فماتت الدنيا في نفوسهم وامحت منها الشهوات، وطمست فيها الميول؛ لأنه مهما يكن من كبير فـ. . . الله أكبر! ولا إله إلا الله! فلما قضيت الصلاة، عادوا إلى القروي، فقالوا له: اذهب فسل صاحبك. فذهب إليه، فقال: