للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

أحدهم بين يديه ليسمع مدحه فيه، وهو يتصون عن مدح السوقة، ويتكرم عن موقف الشاعر؛ فسعى إليه الرؤساء المحرومون بالعداوة، واجتمع عليه الشعراء المغمورون بالحسد، وتعاون هؤلاء وأولئك على تعقب سقطاته وجحود فضله؛ فكان من أثر الكتب التي ألفت في نقده، والقصائد التي قيلت في هجوه، والخصومة الأدبية التي أثيرت من حوله، والحركة الذهنية التي نشأت من شعره، أن سار ذكره مسير الشمس، وصار شعره سجل الخلود، وغدا مدحه مطمح الملوك، وأصبح أدبه وما اتصل به من النقود والشروح مكتبة!

عقلية المتنبي عقلية بدوية خالصة: تتعلق بالحس أكثر من تعلقها بالمعنى، وتعتد بالواقع أكثر من اعتدادها بالخيال، وتعتمد على القوة أكثر من اعتمادها على الحيلة. لذلك كان ذهول الصوفية نابياً في عقله، وشعور الجمال خابياً في قلبه، واثر الدين ضعيفاً في حياته؛ ثم كانت فلسفته حاجة الدنيا، وخطته سنة الطبيعة، وفكرته صورة الواقع، وغايته غاية الرجل الطماح: شخصيته تبغي الظهور، وشهوته ترغب المال، وحيوته تطلب الغلب، وعظمته تريد الحكم؛ لذلك كان أخص ما يميزه بروز شخصيته في شعره، وصدق إيمانه برأيه، وقوة اعتداده بنفسه، وصحة تعبيره عن طبائع النفس ومشاغل الناس وأغراض الحياة

عبقرية أبى الطيب سباحة الجناح، لماحة الطرف، مبسوطة الأفق؛ ولكنه قيدها بالمادة وحصرها في ما تدور عليه من كاذب المدح ولاذع الهجاء، فقرت قرار الطائر الحبيس، تخافت بالأغاريد المزورة على طبيعتها، وتكابد الشوق الملح إلى الهواء والسماء والروض؛ ثم تفلت أحيانا من ربقة القيد فتحلق في سماء الإلهام وتهتف بالمعجز من قلائد الحكم وشوارد الأمثال وطرائف الذهن، حتى في الأغراض المبتذلة والمواقف الوضيعة

وهكذا كانت قوى المتنبي ومواهبه مقهورة معذبة! ولعله كان أقسى ما يكون على قريحته وعبقريته! فقد أرادهما على الابتكار في مدح لا يعتقده، ووصف لا يحسه، فجاءت معانيه في أمثال هذه الأغراض توليداً في عقله، لا نقلا عن شعوره؛ ومن ثم كثر فيها الإغراق لقيامها على الدعاوى المرسلة، والغموض لانتزاعها من الخوالج المبهمة، والتناقض لتعبيرها عن غير كائن، والتشابه لتفصيلها على غير معين

أما في ما يشعر به كالهجاء والعتاب والنقد والفخر والشكوى، فسيل لا يحجزه سد، وبحر لا

<<  <  ج:
ص:  >  >>