للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

إلى الفراغ مما يعني أو يفيد. ومع ذلك فشهد الله ما شككت في أن هذا الصوت قد دنا الي صادقا، وفي أن هذه اليد قد امتدت الي صادقة وفي أن هذا الحديث قد اتصل بيننا خالصا من كل رياء.

وا رحمتاه للناس! إن الضعف الإنساني ليحمل نفوسهم آلاماً ثقالا. وا رحمتاه للناس! إنما في الحياة من إعراض زائلة ترغبهم في الخير العاجل، وتخوفهم من الشر العاجل، لتحمل نفوسهم آلاما ثقالا. وا رحمتاه للناس! ان أجسامهم لتطغى على نفوسهم وان أهواءهم لتطغى على عقولهم، وان منافعهم لتنسيهم حقوق الصداقة والصديق، وا رحمتاه للناس! ان رهبة السلطان والرغبة في جاهه والحرص على قرب المكان منه لتفسد عليهم من لذات الحياة الخالصة الصافية ما لا ينبغي أن يفسد، وا رحمتاه للناس ان لهم على هذا كله لنفوساً لم تطبع على الشر، ولم يحل بينها وبين الخير، وان هذه النفوس التي تضعف حتى تتورط فيما لا ينبغي لها، لتختلس الفرص إلى القوة والخير اختلاساً، وتختطفها اختطافا، وتنعم منها باليسير الضئيل في اللحظة القصيرة المفاجئة، لم تكن تنتظر ولم يكن يدبر السعي لها تدبيراً، وإنما سنحت فاقتنصت كما يسنح الصيد وتمكن منه الفرصة فيقتنص. وا رحمتاه للناس! لو علموا أن منافع الحياة وأعراضها وأغراضها وما فيها من رغبة ورهبة، ومن مكانة وجاه لا تزن كلها لحظة قصيرة مفاجئة يصفو فيها الود، ويخلص فيها النصح، ويفرغ فيها الصديق للصديق، لغيروا من حياتهم ومن سيرتهم الشيء الكثير.

عرضت لي هذه اللحظة القصيرة المفاجئة في ليلة من ليالي الأوبرا، وما أكثر ما تعرض هذه اللحظات القصار المفاجئة لكثير من الناس في هذه الأيام السود، فاللهم، ارفع عن الناس مقتك وغضبك واللهم هيئ للناس حياة لا يخاف الصديق فيها لقاء الصديق، ولا يختلس الصديق فيها لقاء الصديق، ولا يقطع الصديق فيها أسباب الود والحب، لا لشيء الا لأنه يخاف بأس السلطان أو يرجو رضى السلطان.

طه حسين

<<  <  ج:
ص:  >  >>