للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

نشهد ونسمع، ولا نفكر الا فيما نشهد ونسمع فإذا وقف التمثيل وتفرقنا في أبهاء الدار أو لبثنا في أماكننا لم نتحدث الا بما شهدنا وسمعنا نصفه ونستمتع به، والإ بما سنشهد ونسمع، نتوقعه ونتنبأ بما سيحمل إلينا من اللذة والمتاع. وهل ينبغي أن يدخل الناس دور الفن إلا على هذا النحو، قد خلصوا للفن من كل شيء ومن ذكرى كل شيء، وفرغوا للفن لا يشركون معه في نفوسهم شيئا، وإني لجالس في ناحية من نواحي الدار مع أصدقائي نتحدث بما كان في الملعب ونتوقع ما سيكون، واذا صوت يخرج أصدقائي ويخرجني مما كنا فيه. . صوت لم أسمعه منذ أعوام وقد كنت أسمعه كل يوم، صوت قد بعدت آماد الزمان والمكان بينه وبين سمعي حتى تقطعت بينه وبيني الأسباب، وحتى كدت أنسى نبراته، وكنت أفكر فيه تفكيراً بعيداً نائياً حين كان يحدثني عنه المتحدثون. ثم دنا هذا الصوت ودنا، ثم امتدت يد فامتدت إليها يدي. ثم كانت مصافحة ثم كانت تحية. ثم كان استئذان في الجلوس، وأذن به، ثم كان وجوم من صاحب الصوت، ووجوم ممن كان يبلغه الصوت لم يطل، ولم يكن من اليسير أن يلحظ، ولكنه مع ذلك كان طويلاً ثقيلاً. ثم كان حديث قصير في أشياء لا تغني ولا تفيد ولا تدل على شيء، ثم شرب القهوة واحرق السيجارة، ثم تحية الوداع، ثم الافتراق.

لست أدري أذاق أصدقائي لذة التمثيل بعد ذلك أم شغلوا عنه؟ أما أنا فأعلم أني لم أذق للتمثيل بقية الليلة طعمأً، إنما كانت الأصوات تبلغ أذني ثم لا تصل إلى نفسي وإنما تقف من دونها وقوفا لأني كنت أفكر في غير التمثيل، ولأني صرفت عن الغناء والفن صرفاً، لم دنا اليّ هذا الصوت، وكان قد بعد وأمعن في البعد؟ لم مد إليّ هذه اليد وكانت قد قبضت عني قبضاً؟ لم اتصل الحديث بين صاحب الصوت واليد وبيني كانت قد انقطعت بينه وبيني الاحاديث، بل كانت قد انقطعت بينه وبيني الصلات إلا أن نضطر إليها اضطراراً حين تجمعنا المجامع، أو نلتقي على غير موعد ولا انتظار. ثم لا نستطيع أن يهدي بعضنا إلى بعض ما ينبغي من الإعراض في مثل ما نحن عليه من الجفاء. لم دنا لي هذا الصوت؟ ولم امتدت الي هذه اليد؟ ولم اتصل بيننا هذا الحديث؟ لقد كان الحياء يترقرق في هذا الصوت الذي كان يدنو الي مأخوذاً حزيناً ولقد كان الحياء يضطرب في هذه اليد التي كانت تصافحني مترددة مرتعشة بعض الشيء. ولقد كان الحياء يملأ هذا الحديث فيضطره

<<  <  ج:
ص:  >  >>