للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

مفاجأة في ظاهر الأمر، وعن قضاء مدبر وقدر مقدر في حقيقة الأمر. وإذا كلاكما قد صنع لصاحبه وقدر له تقديراً.

هذه اللحظات القصار الطوال المفاجئة المدبرة لا تسنح للناس جميعا، ولا تسنح للناس في كل وقت، ولو عرفت وسيلة إلى أن تتبين كيف تسنح للناس ومتى تسنح لهم، ولأيهم تسنح لكنت من أكبر المستكشفين والمخترعين. وكيف برجل يفضح سر القدر ويهتك أستار الغيب؟! ولكنت بعد ذلك محسناً إلى كثير من الناس لأني أعلمهم كيف يتقون كثيراً من الشر، وكثيراً من الألم اللاذع والحزن المضني للنفوس والقلوب. ومسيئاً إلى كثير من الناس لأني أعلمهم كيف يفقدون لذات قلما يظفر الناس بمثلها، وكيف يصدهم العلم عن ضروب من السعادة لا ينعم بها إلا الجهلاء، ولحرصت أشد الحرص على أن أجهل هذا العلم وأغلق نفسي من جميع أنحائها دون هذه القوانين، لأني لا أعدل بهذه اللحظات القصار الطوال المفاجئة المدبرة كثيراً من أجزاء الزمن مهما تطل، ومهما تقصر، ومهما تمتلئ ومهما تفرغ، وأي حزن ممض مرمض يشبه في اللذة المحرقة اللاذعة، وفي السعادة المظلمة القاتمة هذا الحزن الذي حملته لحظة من هذه اللحظات في ليلة من الليالي فوضعته في قلبي ثقيلاً خشناً شاقاً، ولكنه على ذلك كله حلو، ولكني على ذلك أحببته وكلفت به. ولكني على ذلك حمدت هذه اللحظة القصيرة المفاجئة التي حملته حتى إذا بلغت قرارة نفسي وضعته فيها هادئة مطمئنة إلى من أقصى الزمن، وأقبلت به متباطئة متثاقلة كما توضع الصخرة الثقيلة في مكان من الأمكنة في غير عنف ولا سأم ولا كلال.

كنت مع جماعة من الأصدقاء نشهد التمثيل ونسمع الموسيقى والغناء في الأوبرا. قد فرغنا لما نشهد وما نسمع، وتركنا أعباء الحياة وأثقالها جميعاً في تلك العربة التي كانت تنتظرنا بالباب، وقد حفظت لكل واحد منا ما ائتمنها عليه من الودائع لترده إلينا متى عدنا إليها، ولم تكن ودائعنا تلك التي ائتمنا عليها العربة وتخففنا منها قبل أن ندخل الأوبرا إلا حياتنا اليومية وما فيها من مشقة ولين، ومن مودة وبغض، ومن يأس وأمل، ومن ألم ولذة، ومن نشاط وخمود. تخففنا من هذا كله وسللنا نفوسنا منه إلى حين كما تسل السيوف من أغمادها، وخلصنا بقلوبنا ونفوسنا نقية صافية مصقولة كأنها المرآة نعرضها للممثلين لينعكس فيها ما يبدعون من مظاهر الجمال الفني في التمثيل والغناء. وكنا لا نحس الا ما

<<  <  ج:
ص:  >  >>