ونهض الشيخ فراح يمشي في الحجرة جيئة وذهاباً وفي وجهه عبوس وضجر وخوف وقد فتح عينيه ولكنه لم يرفعهما عن الأرض كما أنه لم يفتر عن هز رأسه تلك الهزة السريعة العجيبة. . . ودخل الحجرة فتى يلبس جلباباً أبيض فضفاضاً واسع الردنين والطوق إلى درجة غير مألوفة، وتبينت أنه من حاشية الشيخ فقد جلس بين أصحابه دون أن يسلم على أحد حتى على أهل المنزل وهذه أمور يتقنها هؤلاء (المجاذيب) وينفردن بها من دون الناس إلا من المجانين
ورأيت الشيخ يلمحه عند دخوله لمحة خاطفة ما أحسب أحداً لاحظها لفرط سرعتها؛ وبعد أن قطع الشيخ الحجرة في ذهابه ومجيئه بضع مرات عاد إلى مكانه وجلس فأطرق قليلاً ثم هب واقفاً في حركة (بهلوانية) عجيبة كأنما أطلقه لولب خفي وصاح قائلاً: (يا خفي الألطاف) وعاد فجلس والعيون ترمقه في دهشة وحيرة. ودخل الخادم يقدم القهوة فبدأ بالشيخ ولكن الشيخ أشار إليه بيده إشارة عصبية، ونهض اثنان من دراويشه فصرفا الخادم عنه لأنهما يعلمان من حال شيخهما ما لا يعلمه ذلك الخادم الذي التقت الدهشة في وجهه بالرهبة والاحتشام. ثم إن الشيخ عاد فوثب من موضعه وثبة من لدغته عقرب لدغة أطارت صوابه وصاح في صوت مزعج:(يا لطيف! يا لطيف. . . حوش يا رب حوش بحق جاه سيد المرسلين. . . الطف يا لطيف سقت عليك النبي. . . سليمة إن شاء الله، قلنا يا نار كوني برداً وسلاماً. . .)
ولم يكد يتم كلامه حتى سمع الجالسون صفير الخفراء من أطراف القرية البعيدة، وحضر العمدة ومعه بعض الرجال، ثم عادوا بعد حين يعلنون أن الحرائق الثلاث أخمدت سريعاً والحمد لله. ونهض الشيخ يريد الخروج فقد رأى في وجه العمدة ما لا يخفى معناه عليه، وخرج الناس وراءه وما منهم إلا من يتمسح به ويزحم غيره ليحظى بلثم يديه فإن لم يستطع قنع بلثم ردائه، وقد ازداد الشيخ عظمة في نفوسهم بما أظهر من كرامة لا تنكر، ولما كانوا عند الباب الخارجي سمع لغط شديد وجلبة تتخللها الإيمان بالله والطلاق، وتبينا أن كلاً من هؤلاء يتمسك بأن ينال شرف مبيت الشيخ عنده؛ وفصل الشيخ في الأمر بإشارة منه أذعن لها الجميع فقد اختار من بينهم من يضيفه وأنعم عليه بهذا الشرف العظيم.
ودارت الأيام ورأيت الشيخ في مواطن كثيرة، أرجو أن أسوق إلى قارئي العزيز بعض ما