رحمة الله عليكم يا آل أبي بكر، لأنتم أصلبُ الناس أعوادا وألينهم قلوباً. وأحسن الله عزاءك يا ذاتَ النطاقين، فلقد تجملتِ بالصبر حتى لقد أُنسيت أنك أمٌّ يجزع قلبها أن يَهلكَ عليها ولدُها فيتقطع عليه حَشاها
وانصرفتُ عنها بهمِّي أَسعَى، فوالله ما رأيت كاليوم أَكسَبَ لعجب وأجَد لُحزنٍ من أُّمٍ ثكلى يحيا ظاهرُها كأنه سراجٌ يَزَهرُ، ويموتُ باطنها كأنه ذُبالَةٌ توشكُ أن تنطفئ، وذهبتُ ألتمسُ الوُجوهَ وأحزانها، فما أّرَى وُجُوَمها وقُطُوَبها وانكِسَارَها وزَهَقَها وصُفرَتها إلا ذلةَ النفس وخضوعَها واستكانتها وضعفَها وعلَّتها، وأن المؤمِنَ حين يحضُرُه الهُّم أَشعَثَ أغبرَ يَردُّه إيمانُه - حين يؤمن - أبلجَ يتوقَّد، ليكون البُرْهانَ على أنَّ الإيمانَ صيْقلُ الحياةِ الدُّنيا، يَنْفي خَبَثَها ويجلو صَدَأَها، فإما رِكَبها من ذلك شيءٌ، عادَ عليها يُحَادثها ويصقُلها حتى يتركها بيضاءَ نقيَّة. . .
وما بلغتُ المسجدَ حتى رأيت ابن ذاتِ النِّطاقين قائما بين الناس كأنه عمودٌ من طُوِلهِ واجتماعه ووثاقَة بنائِه؛ وحضَرْته وهو يقول:(أيها الناس، عجِّلوا الوقِاع، ولا يرعكُمْ وَقْع السيوف، وصونوا سيوفكم كما تصونون وجوهكم، فلينظرْ رجُلٌ كيف يضرب، لا تخطئوا مضاربكم فتكسِروها، فإن الرجُلَ إذا ذهب سلاحُه كان أعزَل أعضبَ يأخذ أخذاً كما تؤخذ المرأة. ليَشغَلْ كلّ امرئٍ قِرنه، ولا يلهينكم السؤالُ عني: أين عبد الله بن الزبير؟ ألا مَنْ كان ساءلاً عني فإني في الرَّعيل الأول). . . ثم يدفَعُ في صدور أهل الشام دفعة عند باب بني شيبة كأنه صاعقةٌ، وكأنه أسدٌ في أَجَمةٌ، ويحيصُ أصحابُ الحجاج حيصة في منازلهم من الُّرعب، فلقد رأيتُه يقفُ ما يدنو منه أحدٌ، حتى ظننتُ أنه لا يُقتَلُ، حتى إذا كان بين الركن والمقام رُمي بحجرٍ فأصاب وجْههُ فبلغ منه حتى دَمِى، وسال دَمُه على لحيته، وأُرعشَتْ يدُه. . . وغَشيَهُ أصحابُ الحجّاج من كلّ ناحية وتغاوَوْا عليه، وهو يقاتلهم جَاثِماً أشدَّ قتال حتى قُتِل
وا رحمتا لك يا بنتَ أبي بكر!! أيُّ كبدٍ هي أشدُّ لوعةً من كبدِكِ! لقد والله رُحمت رحمةً إذ كفَّ الله منك البصر، لئن لم تكوني تجزعين لموته، لقد كنتِ جزعتِ لما مثَّلُوا به وحزُّوا رأسهُ، ورفعوه على خشبة مُتكَّساً مَصلوباً. . .
وما كدْتُ حتى أقبلتْ أسماء بين يديها كفنٌ قد أعدَّته ودَخَّنتْهُ، والناسُ ينفرجون عن طريقِها