للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

في أعينهم البكاء، وفي قلوبهم الُحزْنُ والرُّعب، قد انتُسفت وجوههم كأنما نُشروا من قُبورهم لساعتهم، وسكنت الأوصالُ، وجالت الأحداقُ في مَحاجرها وكأنها هَّمت تخرُج، وتمشي أسماء صامدة إلى الخشبة صمداً وكأنها ترى أبنها المصلوب، وكأنها تستروِح رائحةَ دَمِهِ، حتى إذا بَلَغَتْهُ - وقد وجم الناس وتعلقت بها أبصارهُمْ ورجفت بهم قُلوبُهم - وقفتْ، وقد وجدت رائحة المسك تحت ظِلاله فقالت: (يا بُنيَّ طبتَ حيًّا وميّتا، ولا والله ما أجزعُ لفِراقك يا عبد الله، فمن يَكُ قُتِلَ على باطل فقد قتلتَ على حق، والله لأثنين عليك بعلمي: لقد قتلوك يا بني مسلماً محرماً ظمآن الهواجر مصلياً في ليلك ونهارك)

ثم أقبلت وجهها السماء ومدت بيديها تدعو: (اللهم إني قد سلمته لأمرك فيه ورضيت بما قضيت له، فأثبني في عبد الله ثواب الشاكرين الصابرين. اللهم أرحم طول ذلك القيام في الليل الطويل، وذلك النحيب، وبره بأبيه وبي)

ووجم الناس وجمةً واحدة، وخشعوا خشعةً لكأن السماء والأرض صارتا رتقاً فما يتنفس من تنفس إلا من تحت الهم والجهد والبلاء. وكأن مكة بيت قد غلقت عليه أبوابه لا ينفذ إليه أحد ولا يبرحه أحد. وكأن الناس قد نزعت أرواحهم وقامت أبدانهم وشخصت أبصارهم، وبدت أسماء بينهم وكأن وجهها سراج قد نص على سارية، لا يزال يزهر ويتلألأ، ثم تتلفت كأنما تتطلع في وجوه هذه الأبدان الخوالد، وأضاء ثغرها عن ابتسامة. والله لقد بلغت من العمر وما سقطت لها سن، ومازال ثغرها ترف غروبه ثم قالت: (يا بني، لشد ما أحببتم الحياة وآثرتم دنياكم، فخذلتم أخاكم، وفررتم عن مثل مصرعه. يا بني يغفر الله لكم، وجزاكم الله عن صاحبكم خيراً)

وأطرقت أسماء إطراقةً ثم رفعت رأسها تومئ إلى الخشبة فوالله لقد رعدت فرائصي حتى تَزَايلتْ أوْصالي، وصَرَّ الناس كأنما تقصفت أصلابهم، وإذا هي تقول: (ألا من مبلغ الحجاج أن المُثْلَة سبة للحي وما تضر الميت. ألا من يبلغ الحجاج عني أن الشاة إذا ذبحت لم تألم السلخ)

وحامت أسماء وطافت بين الناس وبين هذه الخشبة ساكنةً صابرةً، لا يرى إلا بريق وجهها يومض كأنه سيف صَقِيل، ثم طفقت تردد (يا بني، أما آن لهذا الراكب أن ينزل؟ أما آن لهذا الراكب أن ينزل! يا بني ليستأذن أحدكم حَجَّاَجكُم هذا أن يدفع ألي هذه العظام. أدوا

<<  <  ج:
ص:  >  >>