للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

عني؛ يرحم الله من أدى عني)

فيجيء الرسول من قبل الحجاج يأبى عليها أن تدفع إليها عظام أبنها المصلوب ويجيء على أثره موكلون قد وكلهم بجثته يقومون عليها يحرسونها، كأنما خشي أن يحيا ميت قد حز رأسه أن تمسَّهُ يَدُ أُمِّه. فوالله لقد سمعتْ أسماء وخُبَّرتْ فما زادت على أن وَلَّتْ عنهم كما جاءت ما تقطر من عينيها قطرةُ دَمْع، وما تُجاوز قوِماً إلا جاوزتهم كأنهم فُسطاطٌ يتقوَّض، حتى ولجتْ بابَها وغلَّقَته عليها

وانطلقتُ أنفضُ الناس بعينيَّ، فرأيتُ أخي الحارث (ابن عبد الله بن أبي ربيعة) وابن أبي عتيق (هو عبد الله بن محمد عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق) ما في وجهيهما رائحة دم من الحزن والفرقِ. فقلت: ما هذا أوان جزع؛ انطلقوا بنا - يرحمكم الله - إلى دارها نواسيها ونترفقُ لها، فوالله لقد تخوَّفتُ أن يذهبَ بها الحزن عليه، وإنه لفالقٌ كبدَها ما لقيته. ويطرق الباب ابن أبي عتيق. فيجيبُ الصوت من داخل: قد أسمعتَ فمهْ. فيقول: أنا ابن أبي عتيق يا أمَّاه. ويؤذن لنا فندخل دارها تجف قلوبنا من الروع والرّهبة، ونأخذ مجلسنا عند بنت أبي بكر الصديق خليفة رسول الله (ص) وزوج حواريِّه عليه السلام، وكأن قد تركنا الدُّنيا وراءنا وأقبلنا على الآخرة.

استضحكت أسماء حتى بدت نواجذُها وقالت: (مرحباً بكم يا بَنيّ، جئتم من خلل الناس تعزُّون أُمكم في عبد الله. يرحم الله أخاكمُ لقد كان صوًّاماً قوًّاماً ما علمتُ. وكان ابن أبيه الزُّبير أوّلِ رجل سلّ سيفه في الله، وكان أشبه الناس بأبي بكر

يا بَنيّ، والله لقد حملتُه على عُسْرَة، والمسلمون يومئذ قليلٌ مستضعفون في الأرض يخافون أن يتخَّطفَهُم الناس، ولقَدْ سعيت به جنيناً بين بيت أبي بكر وغار ثور بأسفل مكة في هجرة رسول الله صلى لله عليه وسلم وصاحبه أبي بكر رضي الله عنه آتيهما تحت الليل بما يصلحهما من الطعام؛ ويسكنُ الطلبُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتيتهما بسفرتهما وسقائهما ونسيت أن أتخذَ لهما عِصاماً؛ فلما ارتحلا ذهبتُ أُعلِّق السُّفرة فإذا ليس لها عِصامٌ، فوالله ما أجدُ ما أعلقهما به، ووالله ما أجدُ إلاّ نطاقي وأناُ حُبلى مُتِمٌّ. فيقول أبو بكر: يا أسماء شُقِّيه باثنين؛ فأشقه فأربط بواحد منهما السقاء وبالآخر السفرة؛ فلذلك ما سمّاني رسول الله صلى الله عليه وسلم (ذات النِّطاقبن) يعني في الجنة. وأعود بعد الله

<<  <  ج:
ص:  >  >>