للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

(إن العقلية الأمريكية تتطلع إلى عرفان كل شيء، وتولع بالجديد الغريب؛ وهي عقلية فتية تؤمن سريعاً وتكفر كثيراً؛ وأنت لابد ناجح في أمريكا إن كنت روائياً طريفاً ناقدً متفلسفاً. والكاتب الناشئ يغدو معروفاً في أقل من شهرين، تقام له الحفلات الرائعة، وتتحدث إليه الصحف، وتطبع مؤلفاته مراراً ثم. . . ثم يموت في أذهان الجمهور، وينحدر إلى الخمول والنسيان، كأنما هي شهرة خاطفة تمتع بها قليلاً وحلم فيها كثيراً ثم عاد إلى الواقع المجهول يتفيأ ظلال الذكرى وبقايا المجد!)

(والشخصية الفردية لا أثر لها في أمريكا على الأطلاق، والسعادة الروحية لم يتمتع بها الأمريكي بعد لذاته؛ دائماً (خدمة الجمهور) هو المذهب السائد الذي يؤمن به الأمريكيون كافة، وهو مذهب، على قيمته، خطر كل الخطر، مفسد للشخصية والنبوغ، لأن المرء الذي لا يبالي بوجوده الفردي يعد آلة تعمل من غير شعور ولا تطور. والواقع أن المصانع قامت مقام اليد العاملة، والآلة طغت على الفن، (والكثرة) هي المقياس الذي توزن به قيم الأعمال ونتائج الأشياء)

(وهذه المساوئ التي نذكرها ويذكرها غيرنا ليست مساوئ النفس الأمريكية، وإنما هي مساوئ المدنية الغربية الحاضرة. ولئن مات الفن اليدوي في أمريكا وعاشت الآلة فإنما يموت الفن وتحيا الآلة في فرنسا وإنجلترا وألمانيا وإيطاليا؛ ونستطيع أن نستثني مهنة النقوش والخياطة والفسيفساء التي يمارسها القليل من الخلائق البشرية؛ أما عامة الشعب فمحشود في المصانع يعمل مجتمعاً من غير تفكير في الذات؛ والأدب الأمريكي أدب الصناعة حقاً، يصور ميكانيكية المعمل وسرعة الحياة واضطراب المجتمع؛ أما أزمات النفس، وثوران العواطف، وانفعالات الأهواء، فهي غريبة نكرة في الأدب الأمريكي الحديث. . . . .

الواقع أن الحياة الحاضرة حياتان: حياة آسيوية أخروية متشائمة ساخطة، نظرت إلى الدنيا من خلال منظار أسود كئيب، فرأت جوعاً وفقراً ومرضاً وظلماً، فكرهت المجتمع الحافل، وانعكفت على التصوف وأحبت الأحلام، ثم قالت: إنما الدنيا متاع الغرور!. وحياة أمريكية دنيوية صناعية لا تبالي بالباطن العجيب، ولا تعنى إلا بالأرض؛ فالأمريكي قل أن يلتفت إلى نفسه يطالع فيها ويتأمل جوانبها على نحو ما يفعل الأسيوي الحالم، وإنما هو يطالع في

<<  <  ج:
ص:  >  >>