ودرس ابن حجر فقه الشافعي حتى نبغ فيه وأصبح رأساً بين فقهائه، واختير لذلك قاضياً لقضاة الشافعية وظل بين تعيين وعزل قرابة إحدى وعشرين سنة، بعفة وجدارة.
وأقبل على التاريخ وعلى التأليف فيه حتى كون بعض مؤلفاته حلقة هامة من حلقات تلك السلسلة الفريدة من كتب التاريخ التي صنفها مؤرخو مصر في تاريخها وتاريخ رجالها. ومنها (الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة).
وتخرج به طائفة من الفضلاء ومنهم تلميذه الأثير شمس الدين السخاوي صاحب (الضوء اللامع) ومنهم شيخ الإسلام زكريا الأنصاري. وهكذا جمع ابن حجر الفضل من أقطاره، والمكارم من آفاقها. وإذا ذهبنا نعد مؤلفاته وأعماله وننوه بخطرها وجلال قدرها ضاق المقام وأعيا الكلام.
وما بنا من رغبة هنا إلا أن نعرض لميزة من مميزاته قد يكون انتابها شئ من الخفاء، فاحتجب خبرها وتمنع ذكرها، وتلك هي أدبه.
لقد كان ابن حجر أديباً له نفسية الأديب وحساسيته، وله عاطفته وشعوره، وله تأثره وإنتاجه. . . ولكنه انساق بدافع من روح عصره إلى طلب الحديث ودراسة الفقه وعلوم الدين، فبرز في ذلك كله بروزاً تطامن أمامه بروزه في فنون الأدب.
لقد كان بالعصر تجهم للأدب وانصراف عن الأدباء. ولولا ثقة انبثت في نفوس الأدباء بأدبهم، وولوع شاع فيهم بفنهم، لتجهموا للأدب في المتجهمين، ولانصرفوا عنه مع المنصرفين. ولقد كان ابن حجر من هؤلاء الأدباء. . . ولكن كانت به إلى جوار ذلك نزعة طاغية إلى المجادة، ورغبة جامحة إلى معالي الأمور؛ وشعر حينذاك أن الأدب لا يبل أوام أديب ولا يؤدم لقمته، فضلاً عن أن يسدل عليه أردية المجد ضافية، ويرخي فوقه أثواب الجاه سابغة، فإذا ركن إلى الأدب وحده اعتاص عليه السبيل إلى المجد وانسد أمامه الطريق إلى الجاه. لذلك عدل ابن حجر من الأدب إلى غيره، وطلب المجد من باب غير بابه. فحفظ الحديث ودرس الفقه. . .
شعر ابن حجر وهو في حداثة سنه بميله الفطري إلى الأدب، فعكف على دراسته ومعالجته، ونظم الشعر حتى بلغ في نظمه مبلغاً محموداً. ثم تفتحت فيه زهرات الآمال،