وقوى حب المجد في نفسه، ورأى للبارزين من علماء الدين وفقهاء المذاهب في عصره منازل دونها منازل الأدباء والشعراء، فاشرأبت عنقه إلى منزلة من منازلهم، ورجا أن يكون في آتي أيامه واحداً منهم، لذلك سلك طريقهم ونهج نهجهم، وعدل عن الأدب فحفظ الحديث ودرس الفقه. . . ورأى أن يستغل فيهما ذكاءه ومواهبه. فكان له ما أراد.
ولكن هل أزال هذا النهج الجديد نزعة الأدب من نفسه، كلا! بل ظلت كامنة فيها كمون العطر في زهرته، متربصة تربص اللحن في وتره. فإذا مرت عليها نسمة وانية رفيقة استجابت لها فمطرت الأرجاء بأرجها: أو هزتها يد حانية رقيقة لبتها فأطربت النفوس بنغمها. وهيهات هيهات أن تصدأ نفس الأديب الموهوب.
وبعد، فأين نجد أدبه ومظاهره؟ نجد ذلك في كتابته وخطبه وفي شعره.
وحقاً إذا أنت قرأت في مؤلفاته رأيت أسلوبه الكتابي علمياً فيه من مصطلحات العلم لفظها وأسلوبها كما أنه يغلب عليه في كتب التاريخ سرد حديثه وقص تراجمه في غير تأنق. غير أنك يصادفك كثيراً في تضاعيف هذه التراجموغيرها سطور من الأدب الخالص يعود إليه فيها طبع الأديب فيتأنق، ويتخير اللفظ ويحسن في الأسلوب وتبدو عليه سيما عصره من مراعاة البديع، ولكن في غير إغراق ولا استكراه.
وقد كان ابن حجر خطيباً دينياً يعظ الناس فوق المنابر وغيرها، وولي خطابة جوامع عدة منها الجامع الأزهر وجامع عمرو.
ولعل شعره أوضح مظاهر أدبه. وقد كان يظن أن شعره هذا سيتأثر بالاتجاه العلمي البحت الذي اتجهه، فيسمج ويتخاذل وينوء بالمصطلحات. ولكن الحق أنه بقي له شئ كثير من طرب الأديب وأنسه وإيناسه ومرحه ودعابته. وقل أن مرت به مناسبة من مناسبات الأدباء لم يدل عندها بدلوه في الدلاء. فمدح وهنأ وتغزل وشكا ورثى وعاتب وتشوق وحن، ووصف، ونظم في المديح النبوي وألغز وحاجى وتفكه وراسل وساجل ودبج القصائد الطوال، وقطع المقطعات الصغار. وأولع في رفق وكياسة ولطف وسياسة بما أولع به أدباء عصره ممن شغفوا بتعاليم القاضي الفاضل أو تخرجوا في مدرسة ابن نباتة، فورى وضمن واقتبس وطابق وجانس. إلى غير ذلك.
وفضلاً عن ان شعر ابن حجر قد انتثر في بعض مؤلفات ابن حجة الحموي كخزانة