إن تكلمت قال الحساد بغي وظلم وإن سكت قال الشامتون رضي أو عجز، والقلب بالسكوت يتفطر، والصدر من الصمت يتمزق، والكلام. . . هل يجوز الكلام؟
يا ليتني بقيت بعيداً أقنع من بلدي بهذه الصورة الحلوة التي تتراءى من خلال أحلام المشوق الولهان، ويوحي بها الحنين الطاغي، يا ليتني، وهل تنفع شيئاً ليتني؟
فاقنع أنت بهذه الصورة ودع دمشق. ولكن لا، إنك لست مثلي، إنك ستعود فتلقى مكانك في غرفة المدرسيّن معداًّ لك ينتظرك. وسيظلمونك فيسوّون بينك وبين هؤلاء المساكين الذين بعثوهم ليتعلموا العربية في ديار العجم فجعلوهم بذلك سخرية الساخرين. أما أنا فلم أبلغ مرتبة هؤلاء، ولا أنا ببالغها في يوم من الأيام، وقد عمي أولو الأمر والنهي عن أدبي وعلمي وعما نشرت في الكتب والمجلات والصحف وهو شئ يملأ ثلاثة آلاف صفحة على أقل تقدير. هبْ أن فيها كلاماً مرصوفاً لا معنى وراءه تجد أني حملت في كتابتها ورصفها عناء، فكيف وكلها ثمرة التأمل الطويل، ونتيجة كد الخاطر وعصر الدماغ، وما منها شئ سرقته عن أديب من أدباء فرنسا ولا إنكلترا!. . . عمي أولو الأمر عن هذا كله ولم يعدلوه بهذه الورقة السحرية التي جاء بها أولئك من ديار العجم يشهد لهم فيها من يسكن هناك، بأنهم صاروا يفهمون العربية، وغدوا أهلاً للتصدر لتدريسها. . . ولم يجدوني أهلاً لأكثر من (أستاذ معاون)!
أفيكون ظلماً مني وعدواناً، إذا أعلنت ما أصابني، وشكوته إلى القراء، وهم أصدقائي، لم يبق لي من صديق غيرهم؟ لم يبق لي صديق في هذه الحياة، إنك لتعلم ذلك، ولكني لا أشكو!
إنهم يقولون إني عنيد، وإني مشاغب، وإني أثير المشاكل؛ ولست أفهم لهذا كله إلا معنى واحداً، هو أني أوثر الصدق وأعلمه ولا أفعل ولا أقول إلا ما أطمئن إلى أنه الحق. . .
وهل كان ذنباً أنى حميت للفضيلة تمتهن، وللأخلاق تهان، فناضلت عنها وقاتلت، وقلت لتلاميذي ناضلوا عنها وقاتلوا؟. . .
وهل كان ذنباً أني غضبت لمحمد أن ينكر نبوّته ويجحد رسالته، جاهل غرير، في حفلة أقيمت لتكريم محمد وتمجيد ذكراه؟ وهل كان ذنباً أني لا أقول لسواد الليل أنت أبيض مشرق، ولا أقول للأعور ما أحلى عينيك؟. . .