للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

لقد صرخت في العروق الدما ... نموت نموت ويحيا الوطن

فكأنما كانت أصوات هؤلاء الشبان، في تلك الساعة، هاتفة بهذا النشيد، لتنبهني إلى أن الرافعي الذي وقع في نفسي منذ قليل أنه مات، هو حي لم يمت؛ وأن هذه النقلة من حياة إلى حياة، خليقة بأن تكون لمثل الرافعي هي الميلاد الثاني. وثابت إلى نفسي فاستشعرت برد الراحة وهدوء الإيمان

وانتهيت إلى (نادي دار العلوم) فما جلست قليلا حتى أقبل صديقي الأستاذ محمود شاكر وفي عينيه دموع وفي شفتيه اختلاج فمد إليّ يداً يصافحني وهو يقول: (الرافعي مات. . .) وأطرق وأطرقت، وانسرب الفكر في مساربه، فما عرفت إلا منذ الساعة أي واجب عليّ لهذا الراحل العزيز.

لقد عاش الرافعي في هذه الأمة وكأنه ليس منها، فما أدت له في حياته واجباً، ولا اعترفت له بحق، ولا أقامت معه على رأى؛ وكأنما اجتمع له هو وحده تراث الأجيال من هذه الأمة العربية المسلمة، فعاش ما عاش ينبهها إلى حقائق وجودها ومقومات قوميتها. على حين كانت تعيش هي في ضلال التقليد وأوهام التجديد. ورضى هو مقامه منها غريباً معتزلا عن الناس لا يعرفه أحد إلا من خلال ما يؤلف من كتب وينشر في الصحف، أو من خلال ما يكتب عنه خصومه الاكثرون، وهو ماض على سنته، سائر على نهجه، لا يبالي أن يكون منزله بين الناس في موضع الرضا أو موضع السخط والغضب، ولا ينظر لغير الهدف الذي جعله لنفسه منذ يومه الأول، وهو أن يكون من هذه الأمة لسانها العربي في هذه العجمة المستعربة، وأن يكون لهذا الدين حارسه وحاميه، يدفع عنه أسباب الزيغ والفتنة والضلال؛ وما كان - رحمه الله - يرى في ذلك إلا أن الله قد وضعه في هذا الموضع ليكون عليه وحده حياطة الدين والعربية، لا ينال منهما نائل إلا انبرى له، ولا يتقحم عليهما مقتحم إلا وقف في وجهه؛ كأن ذلك (فرض عين) عليه وهو على المسلمين (فرض كفاية)؛ وأحسبه قال لي مرة وقد كتب إليه صديق يلفته إلى مقال نشرته صحيفة من الصحف لكاتب من الكتاب تناول فيه آية من القرآن بسوء التأويل: (يا سعيد، من تراه يقوم لهذا الأمر إن سكت الرافعي؟) وكان هذا من اعتداده بنفسه، ولكنه كان مذهبه وإليه غايته، وكأن القدرة التي هيأته وأنشأته بأسبابها لهذا الزمان قد فرضت عليه وحده سداد هذا الثغر؛

<<  <  ج:
ص:  >  >>