للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

وكان إلى ذلك لا ينفك باحثاً مدققاً في بطون الكتب حيناً وفي أعماق نفسه المؤمنة حيناً آخر، ليستجلي غامضة من غوامض هذا الدين أو يكشف عن سر من أسراره فينشر منه على الناس؛ وأحسبه بذلك قد أجدَّ على الإسلام معاني لم تكن تخطر على قلب واحد من علماء السلف، وأراه بذلك كان يمثل (تطور الفكرة الإسلامية) في هذا العصر، فإذا كانت الأمة العربية المسلمة قد فقدت الرافعي فما فقدت فيه الكاتب، ولا الشاعر ولا الأديب؛ ولكنها فقدت الرجل الذي كان ولن يكون لها مثله في الدفاع عن دينها ولغتها، وفي النظر إلى أعماق هذا الدين يزاوج بينه وبين حقائق العلم وحقائق النفس المستجدة في هذا العصر، ولقد يكون في العربية كتاب وشعراء وأدباء لهم الصيت النابه، والذكر الرائع، والصوت المسموع؛ ولكن أين منهم الرجل الذي يقوم لما كان يقوم له الرافعي: لا يترخص في دينه، ولا يتهاون في لغته، ولا يتسامح لقائل أن يقول في هذا الدين أو في هذه اللغة حتى يرده من هدف إلى هدف أو يرض عليه الصمت. . .

وبعد فماذا يعرف الناس عن الرافعي وماذا أعرف؟ هل يعرف الناس إلا ديوان الرافعي، وكتب الرافعي، ومقالات الرافعي؟ ولكن الرفعي الذي يجب أن يعرفه أدباء العربية ليس هناك. فماذا يكتب عنه الكاتبون غداً إذا أرادوا أن يكتبوا هذا الفصل الذي تم تأليفه في تاريخ العربية، وماذا يقول الراثون عنه في حفلة التأبين؟

لقد عشت مع الرافعي عمراً من عمري في كتبه ومقالاته فما عرفته العرفان الحق؛ وعشت معه بعد ذلك في مجلسه وفي خاصته، وخلطته بنفسي وخلطني بنفسه؛ فما أبعد الفرق بين الصورتين اللتين كانتا له في نفسي من قبل ومن بعد؛ أفتراني بهذا أستطيع أن أقول عن الرافعي شيئاً أؤدي به بعض ما على من الدين للعربية وللفقيد العزيز؟ مالي أتهيب هذا المجال فلا أقدم حتى أحجم؟ إنني لأحس عبئاً ثقيلاً على عاتقي، لا طاقة لي بأن أحمله، وليس على أحد غيري أن يقوم به. ولقد طلب إليّ الأستاذ الزيات منذ عامين أن اكتب شيئاً عن الرافعي يعرفه إلى قراء (الرسالة) فما احسبني لقيت في ذلك من الجهد إلا بمقدار ما استحضرت الفكر وتناولت القلم؛ على أن الرافعي كان يومئذ حياً، وكنت أحذر أن يغضب أو ينالني منه عتب؛ فكيف بي اليوم والرافعي بعيد في العالم الثاني، والكلمة اليوم للتاريخ، ووسائل العلم مني قريبة؛ ورسائل الأستاذ الزيات تتري تستنجزني الوعد وتقتضيني الحق

<<  <  ج:
ص:  >  >>