الشفاء يحمل إلى المريض على كفين: كف الأسى وكف الطبيب معاً
لقد خاف - بادئ الرأي - أن يفزع أهله أن ساق إليهم الخبر في صورته المزعجة، فاستأنى حتى ينزع الطبيب مشرطه، ليرسل إليهم خبراً هادئاً فيفدون على مهل. ونفض جملة حاله أمام ابن عمه الشاب فلم ير هذا في حديثه إلا صفحة من الاعتداد بالذات، والتفاني في الوثوق بالنفس؛ ثم نظر إليه نظرات ذات معنى وقال:(أيضيرك أن تستعينهم على مرضك ووحدتك؟) فقال الفتى: (لا ضير؛ غير أنى أريد أن أفاجئهم بالخبر) قال الشاب (أفتراني أملأ فراغ قلبك حيناً من الدهر؟) قال: (ولم لا وقد عرفتك منذ نشأتي تفيض عطفاً وحناناً، وتسدي النصيحة خالصة للحب وللقرابة، وتنير لي طريق الحياة بحكمتك فأسير في سنا ضوء عقلك. لقد كنت لي جماعة في فرد. والآن. . . والآن أريد أن أعرفك في مرض.) فصمت الشاب وقد حمَّله الفتى العبء وحده. . .
وحمل البرق رسالة الشاب (فتاكم في مستشفى (كذا) يطب لمرضه وينتظر قدومكم، لا خوف. . .) ثم انطلق الشاب يحمل إلى مريضه خبر الرسالة
هل وعى المريض ما قاله الشاب الباسم؟ لقد كانت وخزات الجرح تنفذ إلى قلبه في مثل طعنات الخنجر وهو يصمد لها في ثبات وصبر، وعلى وجهه علامات الضجر؛ وكان العرق ينضح من جبينه بارداً غزيراً ليرسم عليه صورة ناطقة لآلامه ومتاعبه. وأربد وجه الشاب حين رأى الفتى تتعاوره الآلام، وتتناهبه الأسقام، ثم ابتسم في رقة وهدوء ليداعب صاحبه وينزعه من آهاته العميقة، ولكنه كان يجهد نفسه ليرتد إليه جهده خائباً مخذولا
وفي أنة المحزون انقلب المريض إلى ابن عمه الشاب يقول:(ماذا فعلت؟ ماذا فعلت؟ أنني أريد أخوتي وأعمامي وأهلي. . . آه ما شعرت بالوحدة كاليوم. . .!) ورن صدى هذا الصوت الضعيف في قلب الشاب طعنات من يد القدر فراح يقول له. . .
ومضى يوم ويومان وثلاثة. . . ويد الطبيب تمر رفيقة على جرح المريض فيلتئم صدع منه على صدع، وتنفرج في قلبه صدوع وصدوع، لأنه لم يفز بعد برؤية أحد أقربائه؛ ولم يستشعر لحنان إلا من قلب هذا الشاب الذي يختلس من أوقات عمله فترات من فراغ يقضيها إلى جانب مريضه يواسيه ويعطف عليه ويحمل إليه - فيما يحمل - هدية صغيرة، تنتزعه حيناً من أفكاره المظلمة. . .