واستطاع الفتى أن يجلس إلى ابن عمه يحدثه:(ماذا جرى كأنك لم تقص على أهلي خبري. لقد مضى أسبوع ولم يزرني سواك. أنك تملأ قلبي سلوة وعزاء بجمال جلساتك القصيرة، ولكن. . .) وراح الشاب يتلمس لأهله الأعذار: (من ذا يستطيع أن يقول سأفعل. . . لعل حادثاً لم يترام إلينا خبره حال بينهم وبيننا. . . واضطربت الكلمات على شفتي الشاب حين أراد أن ينزع عن صاحبه بعض أفكاره، وحين أراد أن يقول له أنه أصاب الهدوء والراحة حين عاقهم ما عاقهم عن أن يسرعوا إليه. اضطربت الكلمات على شفتيه لأنه كان يسمع من أقصى ضميره صوتاً يقول: (أن لا عذر. . . لا عذر اليوم!) وكان يرى في إبطائهم استخفافاً وامتهاناً، غير أن حكمته أبت إلا أن تسدل على عيني الفتى ستاراً من الوهم. وما كان للفتى أن يسمع، وأن سمع فما كان له أن يصدق، فهو وحده يشعر بالوحدة حين يخلو إلى نفسه، وهو وحده يحس ألم الصدمة. لقد أراد أن يفجأهم بخبر هادئ فانصرمت أيام وما رآهم. وتماثل العليل للشفاء، وهمَّ يريد داراً غير هذه ولم ير منهم أحداً. يا ويح هذا الفتى! لقد راح يطلب الشفاء من علة في جسمه، فملأت الأيام قلبه عللاً سلبته لذة الشفاء
وجلس الفتى إلى عمه يعاتبه:(أفكان من العطف أن أنبذ في حجرة، وحيداً، متألماً، مريضاً، أقاسي ما أقاسي فلا أجد منكم من يزورني أو يكتب إلي؟ لقد كان أبي منكم بالمكان الذي تعرفونه، وكنت من أبي من تعرفون؛ أفلا ترعون حقه في أبنه الملقى على سرير في حجرة موحشة لا يجد من يواسيه إلا ابن عمه الشاب؟) وأحس العم عظم الخطيئة فراح يعتذر: (لقد حجبنا عنك موت إحدى قريباتك) وانطلق الفتى يقول: (لقد سعيتم إلى الميت وقد انتهى، ولبثتم حول قبره أيام تبكون، لتتركوا الحي الذي لا هو بالحي ولا هو بالميت يستروح نسمات الحياة منكم فما يجدها. أفبعد هذا تزعمون، وتزعمون. . .؟) وسبقت زلة من لسان العم: (ولكن. . . أن لك لهنات!) فأسقط في يد الفتى أن سمع عمه يتشفى، وآلمه أن ينتقم أهله. لقد زل الفتى مرة وكل فتى يزل، وما كان لهم أن يعاقبوه وهو يحن إلى بعض عطفهم، وما كان لهم أن ينبذوه في الهاجرة وهو المشوق إلى فيء ظلهم. أي أهل؟ وأي أنسانية؟ واندفع الفتى المغيض: (هذا وقت تنسى الهنات، وتنطوي الزلات. أن لي لهنات لأني لم ابلغ سن العقل، ولكم أخرى لأنكم لم تبذلوا النصيحة. ولقد كفاني أن تبدي