لي الأيام ما كان خافياً، وأن تكشف لي الشدائد عن أشياء كنت أجهلها، وعن أخلاق ظننتكم تترفعون عنها. . .) ثم غمرت الفتى آلامه فأمسك، وترقرقت في عينه عبرة حبستها الكبرياء فما تبرح، غير أن أحزانه ثارت في نفسه فقال:(لقد ظننتكم أهلي، وركنت إليكم لأنكم أهلي، وشمت الخير فيكم لأنكم أهلي. أما الآن فيا خيبة الرجاء ويا ضيعة الأمل!)
ونزت في العم سورة من غضب أن رأى الفتى الطائش يلومه فيشتد في اللوم، ويعاتبه فيسرف في العتاب، وأَلَّم أن يقع بينهما تنابذ، ولكن الفتى كان قد صهرته الفكرة في بوتقة من الأحزان حين رأى عمه يتعلق بأوهى الأسباب بعد إذ عاقبه أهله على غير جريرة، في جفاء وغلظة، فرجع إلى نفسه يحدثها ويرغمها على أن تلقي السلم، فألقت واضطربت الخواطر في رأس الفتى، فتركته موزعاً ينحى على نفسه باللائمة أن قال. .
ولشد ما آلمه أن يكون هو ابن أبيه، ووحيده، واقتراحه على الله حين أعجزته الأيام عن أن يكون له ولد، والأمل الباسم في شيخوخة الشيخ وهو يدب على عصاه في طريق الفناء؛ ثم يرى أهله ينبذونه في مستشفى، ملقى على سرير، في حجرة موحشة، لا يأنس إلا بوجه ابن عمه الشاب عصر كل يوم، ثم هم يغلظون له في الحديث، ويشتطون في العقاب. ولشد ما أحزنه ألا يكون له في هذا العالم إلا ابن عمه يحنو عليه، وينظر إليه نظرات فيها العزاء وفيها السلوة، ويدخل إلى نفسه بكلام في رقة الأصيل لينسيه بعض ما همه؛ وهو كان يرى - عن كثب - الفتى أو الشيخ من أسرته يصيبه بعض ما أصابه هو فينطلق إليه أبناء الأسرة زمراً زمراً يواسونه، ويعطفون عليه، وينزعون عنه آلامه وأحزانه. أما هو. . . أما هو. . .! وتناهبته الآلام: آلام المرض، وآلام الوحشة، وآلام عزوف أهله عنه، فأخفى ضعفه المنسكب من عينيه في منديل
وخرج الفتى من لدن عمه مطوياً على آلام مبرحة تحز في نفسه، وتعض على قلبه حين رأى قلوباً تأكلها أحقادها، وعقولاً تعصف بها ترهاتها، وضاقت الدنيا في عينيه حين انهار مثله الأعلى حجراً حجراً بعد ما رأى من عمه وما سمع، فهام على وجهه يطلب الفُسحة في أرض الله. . .
وهبت أول نسمة من نسمات الفجر تشهد قلباً كبيرا ًينزح عن وطنه، ويهجر أهله إلى حيث تتقاذفه مطارح النوى، إلى حيث لا ينبض لذكره قلب. . .