ما يريد نراه بلغ غاية الرفق حين قال:
تَجُرُّ من فَننٍ ذيلاً إلى فننِ ... وتسحب الذيلَ ترتادُ المؤاسينا
وهي حال نشهدها في الطائر المحزون، فقد نرى الطائر يتنقل على غير هدى من أيك إلى أيك، فنعرف أنه يبحث عمن يواسيه، ولكن أين من يواسي الطائر الحزين؟ إن شوقي نفسه أخطأ حين قال:
أساةُ جسمك شتى حين تطلبهم ... فمن لروحك بالنُّطس المداوينا
فإن الطائر لا يجد من يأسو جسمه، وإنما يجد من يذبحه ويشويه، والناس ألأم من أن يطِبُّوا لطائر جريح!
وانتقل ابن زيدون من شكوى البين والأعداء والزمان إلى معاتبة حبيبته، فذكر أنه لم يستمع وشاية ولم يعتقد إلا الوفاء، أما شوقي فقد انتقل من خطاب الطائر إلى بكاء الأندلس والحنين إلى مصر، فقال:
واهاً لنا نازحي أيكٍ بأندلسٍ ... حللنا رَفيفاً من رَوابينا
رسمٌ وقفنا على رسمِ الوفاءِ لهُ ... نجيشُ بالدمع والإجلالُ يثنينا
لفتيةٍ لا تنالُ الأرضُ أدمعهم ... ولا مفارقُهم إلاَّ مصلينا
لو لم يسودُوا بدينٍ فيه منبهةٌ ... للناس كانت لهم أخلاقهم دينا
لم نسر من حرمٍ إلا إلى حرمٍ ... كالخمر من بابل سارت لدارينا
لما نبا الخلْدُ نابت عنهُ نُسختهُ ... تماثُلَ الوردِ خيرياً ونسرينا
نسقي ثراهمْ ثناءً، كلما نُثِرَتْ ... دموعُنا نُظمت منها مراثينا
كادت عيونُ قوافينا تحرِّكهُ ... وكدنَ يوقظن في الترب السلاطينا
وللقارئ أن يتأمل الحسن في هذه الأبيات، فالشاعر يغلبه الدمع، وهو يتذكر ملوك الأندلس، ولكن الإجلال يثنيه عن البكاء، لأنه في ديار قوم لم تنل الأرض أدمعهم ومفارقهم إلا عند السجود، فهم لم يعرفوا الخشوع لغير الله، وذلك من أبعد الغايات في الثناء.
ويأبى شوقي غلا أن يحرص على المعاني الشعرية، فهو في الأندلس لا يسري من حرم ألا إلى حرم، ولكن كيف؟ كالخمر سارت من بابل إلى دارين! وقديسة الخمر لا تجوز في غير مذاهب الشعراء.