ثم قال في الحنين إلى وطن النيل:
لكن مصر وإن أغضت على مقةٍ ... عينٌ من الخلدِ بالكافور تسقينا
على جوانبها رفَّت تمائمُنا ... وحول حافاتها قامت رواقينا
وهذا معنى قديم سبقه إليه من قال:
أحبُّ بلاد اللهِ ما بين منعِجٍ ... إلي وسلمى لو يصوبُ سحابها
بلادٌ بها نِيطتْ عليَّ تمائمي ... وأول أرض مسَّ جسمي ترابُها
والبكر هو قول شوقي:
ملاعبٌ مَرحَت فيها مآرُبنا ... وأربُعٌ أنِسَتْ فيها أمانينا
وإنما كان هذا معنى بكراً لما فيه من طرافة الخيال، أرأيتم كيف تمرح المآرب، وكيف تأنس الأماني؟
لقد رأيت شوقي أول ما رأيته سنة ١٩٢١، وكان دعاني للغداء عنده بالمطرية مع الأصدقاء الأكرمين مصطفى القشاشي، وسعيد عبدة، وأحمد علام، فعجبت يومئذ لذلك المبسم الساحر وسألت نفسي: كيف كان ذلك الملاك في صباه!
إن حنين شوقي إلى مصر حنينٌ عميق، وإنما كان كذلك لأن الشاعر شهد في مصر دنيا من الحب والمجد لم يظفر بها إلا الأفلون؛ ودنيا شوقي لم تكن مثل دنيا الناس في هذا الزمان، كانت الدنيا في شباب شوقي تفيض بالبشر والإيناس، وكان الشاعر يعيش فيها عيشة مضمخة بالسحر والفتون، وكان للجمال قدسية، وكان للصبا سلطان، وكانت خطوب الزمن لا تهد النفوس كما تفعل في هذه الأيام.
ومن البكر أيضاً قول شوقي:
بنَّا فلم نخلُ من رَوحٍ يُراوحنا ... من برِّ مصرَ وريحان يُغادينا
كأُمِّ موسى على اسم الله تكفلنا ... وباسمه ذهبت في اليمِّ تلقينا
يريد ان يقول إن مصر لم تلقهِ في النفي غلا خوفاً عليه من كيد فرعون، فرعون القرن العشرين المستر جون بول!
- ٢ -
تذكرون قول ابن زيدون: