وفرض عليهم أن تكون أقلامهم عارية كالسيف، وأصواتهم عالية كالمدفع، وألسنتهم صريحة كالحق، فأنا أروي لك حالة قريتي في وراثة المرض، ونصيب قريتي من وزارة الصحة، وحظ قريتي من الأدواء والأطباء هو حظ كل قرية: هي جزيرة من الأكواخ والحضائر في مستنقع وخيم من مصافي المزارع؛ نمت على عفنها وأسنها جراثيم الأمراض المتوطنة فجعلت كل وجه في صفار الخوف، وكل جسم في هزال الجوع، وكل حي في همود الموت. وقطعت مراحل عمرها الماضي على هذه الحال الشديدة، لا يزهر فيها شباب ولا تثمر بها كهولة. ولم يكن لمصلحة الصحة يومئذ إلا شبه طبيب في المركز لا تراه القرية إلا إذا أنتشر وباء أو وقعت جناية. وعمله كله مع حلاقي القرى: يصرح لهم بدفن الموتى من بعد، ويكلفهم جلب المرضى إلى عيادته من قرب، وعلاجه قائم على البركة والتوكل: ماء من الترعة القريبة يشتمل على عقور مسهل. فلما صارت هذه المصلحة وزارة أرادت أن يكون لها كالوزارات عمل، فأنشأت المستشفيات الثابتة والمتنقلة، ودرست الأمراض الوافدة والمستوطنة، وقررت تطهير القرى بقتل الأمراض وردم المناقع. وكان من نصيب حضرتنا مستشفى، ومن حظ مركزنا طبيب. فأما الطبيب فقد عجز عن ردم البركة لأن مالكها الباشا لا يريد، وإذا لم يرد الباشا وجب ألا يريد الناس، لأنه يملك الخراف والسمن والفاكهة والكلمة المسموعة. وأما المستشفى فقد دعي القرويين إلى طبه فهرعوا إليه من كل طريق. وأنحني طبيبه على الأذرع الذابلة بالحقن العنيف، فخشع الداء، وتنبهت العافية، وشعر الفلاح أن في (الاسبتالية) رجاء وفي الطب منفعة، فأزداد وفود المرضى على المدينة حتى شرقت الشوارع وغص المستشفى وضاقت المساكن. فلما وثق الطبيب من الإقبال جعل منزله عيادة خاصة، وسلط أعوانه على المرضى ينفرونهم من المستشفى، ويرغبونهم في العيادة، حتى أشاعوا أن الطبيب يحقن هنا بالماء، ويحقن هناك بالدواء. وأخذ هو يقسوا في المعاملة ويهمل في المعالجة ويشتط في القبول، حتى أشتد على الناس الأذى، وخرجت بهم الأخرجة، وكثرت فيهم الوفيات، فانقطعوا في دورهم مفضلين الموت البطيء الهادئ على الموت السريع المضطرب. وعادت الجراثيم الطفيلية ترتع في الكلأ الآدمي المباح، فلم يبقى في القرية من لم يخامره داء. ثم أنتشر من استفحال البلهرسية داء الطحال فانتفخت البطون واصفرت الأطراف