كان هذا الحبر أضخم الدلاء التي صبت على المؤتمر، فشدهنا نحن، وخجلوا هم. وتذكر الجيران الأعزة حينئذ عواطف المصاهرة والمجاورة فقالوا: هذا هو الحق! ذلك ملككم وما ينبغي لأحد أن ينازعكم فيه!!
كان في قدرة مصر أن تتخذ سياسة الأمر الواقع، فتلغي بإرادتها المطلقة هذه المعرة التي ورثتها عن الترك كما يورث الزهري الإفرنجي عن الأب المريض. ولو أنها آثرت هذه الخطة لوجدت حجتها في القانون لا في القوة، ولكن مصر الكريمة المضيافة لا تزال تجري على أعراق آبائها الميامين فلا ترفع اليد ما دام يغنيها اللسان
على أن قوة الحق المصري، وقدرة المفاوض المصري، جعلتا القانون الأعزل أرفع صوتا من المدافع، وأبعد نفوذاً من القنابل. وأعجب العجب أن الأمم اللاتينية التي سايرت نهضتنا وعاشرت أمتنا قرناً وثلث قرن، كانت هي وحدها التي تجهل أن مصر دولة من دول البحر الأبيض لا أمة من أمم أفريقيا، وأن لها دينا سماويا يهدي إلى الحق، وتشريعاً مدنياً يرمي إلى الخير، وخلقاً شرقياً يدعو إلى المحبة، وأن رعاياها كانوا قبل الامتيازات وبعدها يتقلبون في خيرات النيل، ولا وزر لهم إلا أخلاق هذا الشعب النبيل