ودخل من ملكنا في ملك الجار مقدار كبير. وفي الأسبوع الماضي ندبت الحكومة مهندسا يبين الحق المشتبه، ويعين الحد المجهول، فمسح الأرض ورد المأخوذ، ودق الحديدة وحرر المحضر، وأمضاه الجيران وفيهم العمدة. وكان الحد بين مزرعتين، ولكن الخلاف بين قريتين، فاتفقنا نحن وهم على أن نقيم الحد في اليوم التالي ونجعله مصفًى ومروًى بينهما طريق. ولكننا علمنا في الليل أنهم طمعوا فيها تحت أيديهم فلا يودون أن ينزلوا عنه. وتعليل هذا التحول يسير على من عرف غرائز الناس وخبر طبائع الريف. وفي الصباح الباكر كانت القرية فريقين: فريق الفأس والعمل وقد ذهب إلى المزرعة، وفريق المنطق والكلام وقد ذهب إلى القرية العنيدة. وانعقد مجلس القريتين في دار العمدة؛ ثم انطلقت الألسنة البليغة تتجاوب بالعواطف الشاعرة تجاوب البلابل في أعشاش الربيع. وكانت قوافي الأغاريد ترن موسيقاها بألفاظ الصداقة والود والمصاهرة والمجاورة والقانون والحق، فتطرب الآذان، وتهتز القلوب، وتشرق الأوجه.
فلما انتهينا إلى أن هناك حدا يجب أن يقام، وحقا يجب أن يُعطى، تكشر الوجه الضاحك وتنكر الصوت الرخيم، وانتفخت لغاديد الشر، فتهور بالكلام وتهدد بالمعارضة؛ وكان فيهم رجل رشيد، فكان يملأ الدلو من حين إلى حين ويفرغه على القوم فتقر الفورة ويهدأ الحديث. وفي فترة من تلك الفترات الساكنة، اقترح أن نجعل لجيراننا الطامعين أجلا متى حل وجب عليهم أن يردوا الحق من غير اعتراض ولا مطل. وارتاح القوم لهذا الحل لأنه يترك لهم العين ويأخذ منهم الأثر، ورضينا به نحن لأنه يحسم النزاع بين القريتين، ويذهب عن النفس المسالمة شعور الهزيمة.
وكان الخلاف أشد ما كان على مدة الأجل فبدأت بشهر وانتهت بخمسة. وكان الذين وضعوا أيديهم على الحق بالباطل أبسط لسانا في الرفض، وأصلب عوداً في القبول؛ أما نحن والقانون والحكومة فكان (ارتكازنا) على خلاء
كتبنا الاتفاق وأمضوه بعد وقفات طويلة على كل نص من نصوصه؛ ثم أخذنا نستعد لنشيد الختام في تمجيد الوئام والسلام، لولا رسول أقبل من الغيط يعلن إن رجال الفأس والكريك لم ينتظروا نتيجة المؤتمر. فحفروا المصفى، وشقوا المروى، وأقاموا الطريق، وحرثوا الأرض، وأنجزوا في ساعتين، ما لا ينجز في يومين.