يحاول ألا يشعرك بنفسه، وإنما يشعرك بالفكرة نفسها، فكأن كلمة (أنا) لم تكن في معجمه.
عرفته أول مرة أستاذاً لي بمدرسة القضاء يدرس لنا التاريخ الإسلامي؛ وتطاير إلينا قبل قدومه أخبار منثورة عن تاريخ حياته. إنه تخرج في مدرسة المعلمين، ثم سافر في بعثة إلى إنجلترا، ثم عاد منها بعد أن نال إجازة من جامعتها. وهي أوصاف لم نتحمس لها كثيراً. فكنا قد شاهدنا بعض من سافروا إلى أوربا ورجعوا بشهاداتهم الضخمة وألقابهم العديدة وكانوا كالبندقة الفارغة: منظر ولا مخبر، ورواء في العين، ولا شيء في اليدين؛ فقلنا لعله أحد أولئك الذين لم يكسبوا من أوربا إلا اعوجاجاً في اللسان ورطانة في الألفاظ وإنكاراً لعظمة أي شيء مصري، وعصبية لكل تافه أجنبي.
وحبسنا أنفاسنا عند قدومه نستطلع طلعته
دخل علينا رجل قصير القامة. يحاول أن يخفي قصره بطول طربوشه وارتفاع حذائه، أسمر اللون في وسامة، واسع العينين في خجل، كبير الرأس في عظمة.
يتأبط كتباً كثيرة العدد لا يتناسب حجمها مع حجمه بين عربية وإنجليزية، ويأبى أن يحملها الفراش عنه كما اعتدنا أن نرى من غيره.
وأكبر ما راعنا منه أنه بدأ درسه بعبارة عربية فصيحة التزمها في كل درسه، وفي كل دروسه بعد، وفي كل أحاديثه معنا في الدرس، لا أعرفه شذ عنها مرة واحدة، في طلاقة وعذوبة واستشهاد بالأدب العربي والشعر العربي، مما لم أعرفه لأزهري ولا لمدرس من دار العلوم. يجيد فهم عبارة الطبري على صعوبتها، وابن خلدون على عمقها، والكتب الإنجليزية العميقة. ويوضح ذلك كله بصياغة شهية لذيذة، ويطبعها كلها بالطابع العربي فلا تسمع لفظة إنجليزية، ولا تستعصي عليه عبارة يريد أن يترجمها من لغة أجنبية.
ومما زادنا إعظاماً له أنه لم يكتف بالدرس بل اتصل أيضا بنفوسنا. فكان يخرج من الدرس أحياناً إلى شرح حالة نفسية أو ظاهرة اجتماعية يصل بها إلى أعماق نفوسنا، وأخذنا بالنظام الشديد، وكان يقدسه كل التقديس، فيشمئز من الكلمة النابية ومن اللفظة تكتب منحرفة قليلا عن موضعها. ومن النكتة إن كان فيها قليل من الشذوذ.
ولا تسل عنه في ورق الامتحان، فقد كان يصحح أوراقنا في دقة غريبة، ويأتي بالأوراق مدونة فيها ملاحظاته في اللفظ والمعنى والأسلوب والخطأ الإملائي والخطأ التاريخي،