من أجل هذا كان الأستاذ المحبوب والأستاذ الجليل والأستاذ الظريف والأستاذ العالم.
لم تطل دراسته في مدرسة القضاء، وانتقل إلى وظيفة إدارية. ولم يطلب الانتقال لرغبة في مال فهو يحتقر المال، ولا في جاه فهو يحتقر الجاه، ولا رغبة عن التعليم فهو يحب التعليم ويصارحني أن أكبر غلطة أرتكبها أنه تحول من التعليم إلى الإدارة، ولكنه كان شديداً، وكان عاطف بك ناظر المدرسة شديداً، وكان لكل شخصيته القوية. ولكل آراؤه في سياسة الطلبة، فتصادما تصادماً نفسياً من غير أن ينبس أحدهما بكلمة؛ وكان أن خرج (علي فوزي) من المدرسة آسفين عليه كل الأسف شاعرين أنه لا يمكن أن يعوض، وكان (عاطف) أول من حزن على خروجه بعد أن حاول كل محاولة في استبقائه
وكان حساساً إلى درجة لا تتصور. تجرحه الكلمة الخفيفة لا يشعر بها أحد، والإشارة القليلة تصدر من رئيسه فيظنها بالغة منتهى الشدة، والإيماءة المعتادة فتحز في نفسه وتصل إلى أعماق قلبه.
فكيف يستطيع بعد أن يكون موظفاً؟ لقد تداول عليه وزراء عديدون لا أسميهم، كل منهم جرح نفسه جرحاً بل جروحاً. وأي الرؤساء يتحاشى حتى الهنات الهينات مع مرءوسيه؟ وأي الرؤساء يدرك مقدار السهام المسمومة التي يوجهها إلى نفس كنفس علي (فوزي) وهو لا يرى أنها سهام أصلا بل قد يظنها نوعا من الملاطفة؟ - لقد رآه وزير يكتب خطاباً بالإنجليزية فأعجبته بلاغته فقال له: لعلك تحسن أن تكتب مثل هذا بالعربية! فما كان أشدها وقعاً في نفسه.
ثم هو يعشق العدل المطلق الدقيق، ويؤلمه أشد الألم الظلم الخفيف. وكان كل يوم يرى تصرفات في الوزارات لا تتفق والعدالة التي ينشدها: هذا يحابي المتملقين، وهذا ينصر الأجانب على المصريين، وهذا يمنح ترقيات وعلاوات لغير المستحقين
ثم ما هذا النظام السخيف للدرجات؟ فهذا موظف في الدرجة الأولى وآخر في الدرجة الثانية! إنه يفهم أن يبدأ الموظف بمرتب صغير يزيد على القدم والكفاية، ولكنه لا يفهم تقسيم الموظفين إلى طبقات يعلو بعضها بعضا، ويدل بها بعضهم على بعض
لا. لا. ثارت نفسه على كل ذلك، ففي هدوء وسكون، ومن غير أن يشعر أحد من أصدقائه