دبرّ أمره وأعد عدته للخروج من الوظائف الحكومية، وألح في طلب إحالته إلى المعاش، فكان له ذلك. ورضى بنحو خمسة وعشرين جنيها في الشهر على ثمانين وما كان يتبعها من علاوات وترقيات وحسبان معاشات
بل ليست الوظيفة وحدها هي التي يجب الفرار منها، بل يجب الفرار أيضا من مصر، فما مصر هذه التي يحكمها الأجنبي وتستسلم له؟ وما مصر التي يستمتع فيها صعاليك الأجانب بما لم يستمتع به سادة أهلها؟ وما مصر التي تجلس في مقهى من مقاهيها فتشعر أن الرومي الذي يقدم لك القهوة خير منك وأعز منك، ويستطيع أن يحتقرك وأن ينكل بك ولا تستطيع أن تفعل به ما يفعل بك؟ وما مصر التي لم تستطع أن تكون غنية في أطبائها وعلمائها وتجارها وصناعها ولم تزل عالة في كل ذلك على غيرها؟ لابد إذن من الهرب من الوظيفة ومن مصر معا
خرج من مصر ساخطاً غاضباً آسفاً حزيناً، خرج هائما على وجهه يمثل دور جده. لقد كان جده المملوك الشارد، فكان هو الحر الشارد
خرج إلى أوربا هائما في ممالكها، ولكنه كان فيها مستوحشا، نعم إنه يتكلم لغتها ويفهم مدنياتها ولكن ليس قومها قومه، ولا دينها دينه، ولا روحانياتها روحانياته. ثم ألقى عصاه في الأستانة عقب الحرب واطمأن إليها، فهي هي البلدة المستقلة بين ممالك البلاد الإسلامية؛ وهي هي التي لا تذلها الامتيازات الأجنبية؛ وهي التي يجد فيها غذاء روحه وعواطفه بمساجدها العظيمة ومآذنها التي تشق السحاب. من أجل هذا اختار السكن فيها، وفي الأحياء الوطنية لا الأجنبية، وأتخذ مجلسه في مقهى تركي بلدي تحت شجرة زيزفون بجور حائط مسجد با يزيد
ثم حاول أصدقاؤه جهدهم أن يحولوه عن رأيه ويعدلوا به عن غربته. فذهبت محاولتهم عبثا. عرضوا عليه وظائف مختلفة الألوان كان آخرها مدير دار الكتب. فكان جوابه: متى عرفتم سبب خروجي من الوظيفة وسبب خروجي من مصر لم تعرضوا هذا العرض؛ فالأصل قبل الفرع، والحرية مع الفقر خير من الذل مع الغنى
قد رزق عيناً يرى بها غير ما يرى جمهور الناس؛ فكثيراً ما كان يحتقر من يجله الناس. ويجل من يحتقره الناس، لأن له مقاييس في التقدير تختلف عن مقاييس الناس، ليس في