مقاييسه اعتبار لثروة ولا جاه، ولا منظر، ولا حسب، ولا نسب.
حتى مكانه العام الذي كان يختاره لمقابلة أصدقائه لا يختاره لوجاهته، وإنما يختاره لنظافته، ولأن صاحبه مسلم، ولأنه يتنفس فيه جواً شرقيا لا غربيا، ولأنه ليس فيه امتيازات أجنبية، وهكذا من اعتبارات متعددة لم استطع أن أعرف منه إلا بعضها.
ويفضل أن يزور حلاقا كان زميلا له في المدرسة على أن يزور باشا من الباشوات أو من يعده الناس كبيراً من الكبراء
قد أعظمه في عيوننا صغر الدنيا في عينه؛ فليس للمال عنده إلا وظيفتان: قليله يتبلغ به ويسد حاجاته الضرورية، وكثيرة للمروءة. وأعرف له في ذلك فصولا غاية في السمو، فقد كان حيناً يسكن في أسرة أوربية عميدها فرنسي، وربة الدار ألمانية ولهما ابن وبنت، حتى إذا نشبت الحرب العظمى جند عميد الأسرة، فأحلت الأسرة فقيدنا محله على رأس المائدة.
وكان كثيراً ما يدور الجدال على المائدة في نظريات الحرب وخصوصا الفتى والفتاة، فكان الفتى يذهب مذهب أبيه ويتعصب لفرنسا وحلفائها، والبنت تذهب مذهب أمها وتتعصب لألمانيا وحلفائها؛ ثم كان من الفتى أن طعن تركيا في سمعتها وقيمتها، ولم يكن يعرف عصبية الفقيد لتركيا، فلم يعد علي فوزي يطيق البقاء بعد في البيت، ولكن ماذا يصنع ووفاؤه يقضي بمراعاة هذه الأسرة بعد غياب عميدها، وعصبيته التركية تأبى أن يسكن في البيت بعد ما كان من الفتى؟ لا يحل هذا الإشكال إلا احتقار المال. فقد تظاهر بأنه يأخذ درسا على السيدة الألمانية ودفع ما كان يدفع أيام سكناه لم ينقص منه شيئاً وإن قلل ذهابه بعد ذلك لأخذ الدرس.
وكان منظره في استانبول غريبا: يجلس في مقهى عرفه البؤساء والمحتاجون فهو يمنحهم ما أمكنه وهو الفقير الذي لا دخل له إلا معاشه الخمسة والعشرون جنيها، ينفق منها ثلثها على نفسه وثلثيها على مروءته، وطويل أن نعد مآثره في هذا الباب
أحب العزلة وأكثر التفكير. فهو في بيته وحده، إذ لا زوجة له ولا ولد. وفي تروضه وحده غالبا؛ هو وحده في أكثر أوقاته، صديقه الكتاب، ثم ضعفت أعصابه ففقد صداقة الكتاب أيضاً إلا نادراً، وكان تفكيره في العالم حيناً وفي نفسه كثيراً
وهذه حالة تستتبع الوحشة وتستتبع التشاؤم، وتستتبع الحزن والانقباض، وكذلك كان شأنه