نفسه ينشر أتراحه ويطويها، غير أنه لم يستسلم لخواطره السود إلا ريثما تنجاب عنه غمرات الوحشة التي اكتنفته منذ هبط المدينة.
ورأى الصبي - بعد لأي - أن لا معدى له عم أن يلقي السلم لما أراد أبوه. ولكنه كان يضطرب في ذعر وفرق كلما ذكر عصا المدرس وهي تفري جلده في قسوة وجفاء، وكلما ذكر كف الناظر الغليظة وهي تهوي على وجهه تصفعه في غير شفقة ولا رحمة. والمدرس في تربية الطفل طريقة تبذر في التلميذ غراس الكذب والمكر، وتنفث فيه روح الملق والخداع؛ وللناظر وسيلة في حفظ نظام المدرسة توحي إلى الصبي بأنه لا يستطيع أن يتقي قسوة المدرسة إلا أن يفزع عنها ليقضي صدر النهار في منأى عن العلم ليتعلم فنون الشارع وفنون السيما معاً.
وكان الصبي حديث عهد بالمدينة فما استطاع أن ينجرف في تيار الحضارة، وكان وحيداُ من الخلان فما استسلم لنزوات النفوس العابثة، وأراد أن يأمن كيد المدرس والناظر فعقد العزم على أمر، فراح يقضي وجه النهار في الفصل، يجلس في هدوء وصمت، لا تشغله نزعات الصبا ولا سفه الطيش ولا جهالة الحمق، وراح يقضي أول الليل في حجرته الصغيرة يستذكر درسه ويؤدي واجبه، عسى أن يرضى المدرس أو يستميل الناظر فما تلبث أن تصدر أترابه وبذ أقرانه وظفر - في غير جهد ولا عناء - بحب المدرس وتقدير الناظر واحترام الزملاء في وقت معا. غير أنه ظل يرسف في أغلال ثقلال من الدين. . الدين الذي يبذر في القلب الرهبة ويغرس في النفس الخنوع وينفث في الروح الخوف ويقيد الهمة بالاستسلام.
ومضت السنون تنفح في الصبي من روح الشباب، ومن ورائه أبوه الشيخ يثقنه - فيما يثقن - مبادئ الدين الجافة. فبدت سمات الشباب الجياش على وجه الصبي وتألفت آثاره في عقله، ولكن قلبه ما زال يرهب الحياة ويفزع عن موكيها، فعاش في وحدته يضطرب بين الحياء والخجل فلا يجد ملجأ يعتصم به إلا الكتاب والدرس
لطالما سولت له نفسه الشابة أمراً، ولكن أغلال الدين الثقال التي كبلته منذ شب عن الطوق كانت دائماً تمسكه عن أن يندفع
وانطوت سنوات الدرس فإذا الشاب فتى يتأنق في زيه الإفرنجي وخواطره ما تزال هناك