قلت (من؟) قالت (أنا). فلم أقل شيئاً، ولكني عجبت من فعل السنين، لئن كانت تلك هي هذه فإن الزمن لم يترك منها إلا بقدر ما ترك في جسم أبي الهول من شكل الأسد. لابد وأن تكون أهوال ألف عام قد حشدت في عمر هذه السيدة حتى صارت مما كانت إلى ما هي الآن.
قلت فمن الفتى الوسيم؟ قالت (زوجي) واغرورقت عيناها الحالمتان، ومن الغريب أن الدموع لم توقظهما من أحلامهما.
حسبت أنني آلمتها بذكرى هناء ذاهب. وحبيب غير آيب، فقلت متعثراً معتذراً:(أخشى أن أكون أدميت جرحاً عله كان اندمل. فقالت (لا أخال مثل جرحي يندمل. وتلا ذلك سكوت وجدته خيراً من الكلام، ووددت لو أن كلاماً لم يكن.
ثم رأيت السيدة تنظر إلي نظرة فيها حنان الأم، وإذا بها تقول: (أوصيك يا بني ألا تذوق الخمر أبداً، فإن كنت شربتها فلا تقربها بعد اليوم). فدهشت لهذا الكلام المفاجئ وعجبت له. قلت (ما هذا الذي تقولين؟) قالت (لقد كانت حياتي مأساة يؤلمني أن أقصها فأحياها من جديد، ولكنها عبرة نافعة لمن هو في سنك، فسأقصها عليك.
كان زوجي في أول عهدنا فتى جم المحاسن، شديد الحب لي وللأطفال، يهوى العش الذي بنينا، وكان في عمله مثال النشاط، جم الكفايات. وشاء الجد العاثر أن ينقل إلى وظيفة (بالجمارك)، فكانت مهمته تقدير المكوس على الخمر التي ترد من الخارج، ومرت الأيام فإذا بي أشم ريح الخمر في فم زوجي، فأبديت له مخاوفي، فطمأنني قائلاً إنه يسترشد في عمله أحياناً بتذوق عينات الخمر، وإنه إنما يفعل ذلك بحذر وما يتناوله لا يذكر. ومرت الأيام فإذا به يعود إلي يترنح من الشراب ثم لم يعد المحب العطوف البسام، بل صار غضوباً إذا كلمته رفع صوته بالجواب الخشن. ثم ازداد فكان لا يفرغ هراؤه ما دمت بمرأى منه. ثم استغلظ فصار يضربني ويضرب الأطفال. كل ذلك وأنا حافظة عهده، أكتم ما أنا فيه عن الناس ثم حدث ما لم يكن منه بد، ففصل من عمله لقلة كفايته وسوء خلقه، واستعجف عيشنا، فأكلنا ما ادخرنا في العهود السمينة ويعلم الله أننا ما كنا نأكل بمعشار ما كان ينفق في الشراب. ثم ساءت صحته، وألح عليه السعال، فكان يسعل الليل بطوله وأنا معه يقظى حتى الصباح. وذات صباح انتبهت من غفوة فلم أجده في فراشه، فحسبت أنه