الإلف والتعود، وحياة الأماني في الكمال والمجد، نزاع عنيف، وهو على عنفه أمر غامض في نفوس عامة أفراد المجتمع، لأنه يقوم على أماني مبهمة دائماً في أول أمرها. ولا تستبين هذه الأماني إلا في فئة قليلة، تملك من القدرة على النظر، وعلى التأمل، وعلى البيان عن نظرها وتأملها، قسطاً يتيح لها أن تحاول التعبير عن هذه الأماني، تعبيراً يخرجها من حيز الأمر المبهم إلى حيز الأمر البين.
فمن هذا المدخل يدخل على الجماهير أحد رجلين: إما رجل عاقل صادق يحسن النظر والتأمل والبيان، وإما رجل ذكي قادر يموه عليهم بالنظر والتأمل والبيان. أحدهما عارف يصدق الناس ولا يبالي، والآخر دجال يلعب بالناس ولا يبالي. أحدهما لا يأخذهم إلا بالوسائل التي تقوم على الصدق والعدل والحق، والآخر يأخذهم بكل وسيلة لا يعبأ بصدق ولا عدل ولا حق. أحدهما يعلم الناس معنى هذه الأماني المبهمة في أنفسهم، كما ينبغي لكل تعلم، من جهد ومشقة وحذر وبصر. والآخر يعلمهم معنى هذه الأماني المبهمة في أنفسهم، بما يستثيره فيهم، وما يستغله من نزوعهم وتلهفهم، لا يأبه لشيء إلا لما يستخفهم إلى اتباعه وطاعته وتمجيده.
فالحرية مثلاً شوق تهوى إليه نفوس المستعبدين. كلمة مبهمة تعيش في سر نفوسهم كالقبس المكتوف، لو كشف غطاؤه لأضاء. فالرجل الصادق يعلم النفوس معنى الحرية، ويكسبها من وسائل تعلمها ما لابد لها منه من صدق وعزيمة وجد ومشقة وبصر، حتى تتهاوى الجدران التي تحول بينها وبين الانطلاق، وتنفض الأغلال الثقيلة الغليظة التي تعوق الحي عن إدراك حريته. أما الدجال، فهو لا يزال يصرخ فيهم باسم الحرية، ثم لا يمنح الناس من وسائلها إلا كل وسيلة لا تغني شيئاً في كفاح الجدران والأغلال، بل ربما زادت الجدران صفاقة وقوة، والأغلال ثقلاً وغلظا وفداحة. فهذا هو الباطل المشرق، لأنه يأتي الناس من حيث تهوى أفئدتهم معنى مبهما غامضا كريما، فيموه هذا المعنى بما شاء من تمويه، ليسير الناس ورائه كما هم عمياً صماً، لا ليعلم الناس حقاً يطلبونه ويحرصون عليه ويزدادون معه على الأيام بصراً وإدراكا.
وهذا العالم الإسلامي الذي يموج اليوم موجه، ينبح في نواحيه هذا الباطل المشرق. ينبح في السياسة، وفي العلم، وفي الأدب، وفي الفن، وفي الأخلاق، وفي جماع ذلك كله: في