للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

وإذا بلغ من رواية (خيالية) أنها تريك كيف كان بطل من الأبطال في نظر الناس، فتلك دلالة نفسية لا تظفر بها في كثير من صادق الأخبار.

هذه التفرقة بين حجة الرواية ودلالتها هي التي نلاحظها في إيراد بعض الروايات التي نشك فيها أو نقطع بنفيها، ولكننا لا نسقطها من الحساب عند الكتابة عن سيرة عظيم من العظماء لأنها لا يصح أن تسقط من الحساب وفيها دلالة عليه أو على نظر الناس إليه.

لاحظناها في سيرة كل عظيم من عظماء العرب الذين كتبنا عنهم، ولو أننا أسقطناها لفاتنا أن نفهم حقيقة العظيم كما كان، وأن نفهم حقيقته كما كان في نظر الناس.

من ذلك في سيرة عمرو بن العاص أننا أوردنا رواية ابن الكلبي حيث قال: (لما فتح عمرو بن العاص قيسارية سار حتى نزل غزة، فبعث إليه عالجها أن ابعث إلى رجلا من أصحابك أكلمه ففكر عمرو وقال: ما لهذا أحد غيري، وخرج حتى دخل على العلج فكلمه، فسمع كلاماً لم يسمع قط مثله: فقال العلج: حدثني! هل من أصحابك أحد مثلك؟ قال: لا تسأل عن هذا؛ إني هين عليهم إذ بعثوا بي إليك وعرضوني لما عرضوني له ولا يدرون ما تصنع بي. فأمر له بجائزة وكسوة وبعث إلى البواب: إذا مر بك فاضرب عنقه وخذ ما معه. فخرج من عنده فمر برجل من نصارى غسان فعرفه، فقال: يا عمرو! قد أحسنت الدخول فأحسن الخروج. ففطن عمرو لما أراده، ورجع فقال له العلج: ما ردك إلينا! قال: نظرت فيما أعطيتني فلم أجد ذلك يسع بني عمي، فأردت أن آتيك بعشرة منهم تعطيهم هذه العطية فيكون معروفك عند عشرة خيراً من أن يكون عند واحد. فقال: صدقت. أعجل بهم، وبعث إلى البواب أن خلّ سبيله).

فهذه القصة تذكر ويقال فيها إنها غير مقطوع بصحتها، ولكنها تذكر لدلالتها النفسية ودلالتها التاريخية. وكذلك فعلنا حين عقبنا عليها فقلنا (إنها لا تؤخذ على علاتها في تفصيلاتها ولا يلزم أن تصح أصولها ولا فروعها، ولكنها تدل - ولو كانت مؤلفة - على أشياء قريبة من الحقيقة، بل لابد أن تكون قريبة منها، لأن صدق الأخبار عامة لا يستقيم ولا ينتظم بغيرها. فمن تلك الأشياء شهرة عمرو بالدخول في أمثال هذه المداخل العويصة التي يجرب فيها حيلته كما يجرب إقدامه. ومنها أن عرب الشام كان فريق منهم على الأقل ينظر إلى الحرب بين الروم والمسلمين نظر العصبية الجنسية على ما بينهم من الفارق في

<<  <  ج:
ص:  >  >>