وهكذا فعلنا فيما رويناه عن فراسة عمر بن الخطاب وملكاته الغيبية واشتهاره بها بين المسلمين. فإن الرواية في هذا المقام تذكر وتشفع بالتعقيب عليها وبيان حكم العلم والتاريخ فيها، ثم تؤخذ منها دلالتها على كل فرض من الفروض، وإن كان بعض هذه الفروض إنها مخترعة أو أنها نقلت مع المبالغة فيها والزيادة عليها.
فرق إذن بين الصحة والدلالة في الروايات التاريخية.
وفرق آخر - شبيه بهذا الفرق - بين أمرين آخرين لا يعطيان حقهما من التفرقة، وهما النفي وعدم التصديق.
فإذا مر بك خبر مقرر فجزمت بنفيه فأنت المطالب بالدليل.
ولكنك إذا مر بك خبر من الأخبار فلم تصدقه فأنت الذي تطلب الدليل، وليس عليك أن تقيم دليلا لأنك لم تصدق خبراً تعوزه الأدلة، بل كل ما عليك أن تذكر أسباب الشك أو أسباب عدم التصديق.
وهذا الذي فعلناه فيما روي عن وأد الفاروق لبنت من بناته، فإن الرواية ناقصة تبعث الشك ولا تطرد مع سائر الأخبار، فليس علينا أن نصدقها ولا يقال إذا نحن لم نصدقها إننا مطالبون بدليل أو أننا نفينا كلاما بغير برهان.
ولعلنا نقرب الفرق بين الأمرين بتشبيه عصري من مسائلنا المعهودة في الدعاوي اليومية. فكلام المدعي لا يلزمك ما لم يقم دليلا عليه، ولكن حكم المحكمة يلزمك فلا تنقضه أنت إلا بدليل أقوى من أسبابه التي بني عليها.
ومن الفروق التي تعرض لها في هذا الصدد ذلك الفرق البعيد بين الحوادث كما تدل عليه في ذاتها، وبين الحوادث كما تدل عليه في تقدير صاحبها الذي تنسب إليه.
ولنضرب لذلك مثلا من حديث مكتبة الإسكندرية.
فإننا أشرنا إليها واتبعناها بالأدلة التي تبرئ الفاروق من تبعة إحراقها، ثم قلنا إن الفاروق لا يلام على إحراقها لو صح أنه أحرقها وهو غير صحيح؛ لأنه لا يطالب بعلم الفلسفة اليونانية ولا يتبين صلاح تلك الفلسفة من أحوال أهلها. (فقد كانوا على شر حال من الضعف والفساد والجهل والهزيمة والشقاق والتهالك على سفساف الأمور. فإذا كان عمر