فإن الواقع كله يبطل حجته، والعقل يوجب أن يشك المرء في صحة إدراك هذا الشعب؟ فهذه هذه، فليس ينفع قضية مصر أنه تدعي أن النيل بينكما هو الرباط الذي يوجب أن تصير مصر والسودان أمة واحدة. والعجب العجاب عندي أن حديث السودان كان قد جرى بيننا قبل أن يمسه عر قومه، فلم يقتصر يومئذ على أن يسكت؛ بل كان قد وافقني على ما ذكرت له من حجة مصر في قضيه السودان، فإذا هو قد نسي كل هذا بعد أن ارتد إلى سنخه وطبيعته. . . . وهكذا الإنجليز.
ومضى الزمن، وإذا بنا نسمع إحدى الببغاوات التي سلبت العقل وكسيت الريش الجميل، تردد هذا القول المدخول الفاسد من جميع نواحيه. ولو كان قائله إنجليزياً لهان الأمر، وهو هين على كل حالٍ، ولكنه مع اشد الأسف سوداني بالمولد والإهاب، أما قلبه فقد بيع بالمزاد فوقع في قبضة الرجل الذي رفعته إنجلترا بين عشية وضحاها من وهدة البؤس والحرمان، وكان فيهما رجلاً فاضلاً، إلى ذروة الغنى والجاه، فأصبح بعدهما جانحاً إلى النقصان ساعة بعد ساعة.
زعمت الببغاء أن ليس في الدنيا شيء يقال له وحدة وادي النيل، كما انه ليس في الدنيا شيء يقال له وحدة نهر الدانوب، وإن الذي يبطل هذه يبطل تلك في مقام الاحتجاج، ويخرج من هذا إلى إن السودان ينبغي أن يكون أمة وحده، وأن مصر أو أثرياء مصر! (ينصبون فخاخاً تخفي أغراضهم الحقيقية ببراعة بالغة خلف الثوب اللامع من الدين واللغة والتاريخ، وهو الثوب الذي اصطنعوه بأيديهم). هكذا قالت الببغاء التي يزعمون أنها رئيس تحرير جريدة النيل وعضو في وفد حزب الأمة في لندن لهذا التاريخ!
فهذه الببغاء تجمع إلى نقيصة الترديد والتقليد نقائص كل واحدة منها شر من الأخرى هي الجهل بمعنى ما يقول، والكذب على أهل السودان، والجرأة في التهجم على الناس بما ليس يعلم، والتدليس في التاريخ، والعبث بمصير أمته المصرية السودانية، وشرهن جميعاً ما يلوح في خبئ كلامه من العداوة البغيضة التي يورثها هو والمستأجرون من أمثاله بين مصر والسودان.
وقصة هذا الدانوب الذي يحتج به ذلك الإنجليزي ثم احتجت به الببغاء الملقنة، قصة فاسدة المبنى والمعنى، والإغماض في الاحتجاج بها دال على ضيق التصور وقلة العقل وجثوم