الجهل في جمجمة قائلها. فهذا النهر ينحدر من منابعه في بادن مخترقاً المانيا ثم النمسا ثم هنغاريا ثم يوغسلافيا ثم بلغاريا ثم رومانيا حيث ينتهي إلى مصبه في البحر الأسود، فهو مشترك بين ست دول كل واحدة منها لها خصائصها، حتى يبلغ التباين بينها مبلغاً ليس بعده شيء في اللغة والعادات والآداب والتاريخ وأسباب الحياة كلها تقريباً. هذه واحدة.
أما الثانية فهذا النهر واقع في قلب أوربة، وهذه الدول كلها قائمة على حفافيه متاخمة لدول أخرى تحيط بها شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، فهو ليس نهراً في صحراء جرداء كما ترى في نهر النيل الذي يحده من الشرق صحراء، ومن الغرب صحراء، ومن الشمال بحر ينتهي إليه مصبه، وفيه دلتا مصر.
وأما الثالثة، فهو أنه ليس نهراً تقوم على جوانبه الزراعة في خطٍ ضيق في بلد واحد كالذي تراه في نيل مصر والسودان، بل لعل أكبر فوائده هي النقل لا الزراعة وحدها.
وأما الرابعة فهي أن هذا النهر يمر في دول ستٍ قوام حياتها الصناعة لا الزراعة وحدها. أما نهر النيل فالزراعة هي قوام حياة أهله وسبب أرزاقهم، والذي فيه من مادة الخصب يوجب أن يكون نهراً للزراعة واستصلاح الأرضين البور التي تحف به من شرق وغرب.
وأما الخامسة فهي أن إقامة السدود على نهر الدانوب لا يمكن أن يراد بها إلحاق ضررٍ بالأرضين التي تقع على منحدره، فإذا أراد ذلك مريد وعزم على أن يضر بلداً بمنع ماء الدانوب عنه فقد وقعت الواقعة بين ست دول كلها متأهب للحرب في سبيل رد هذا البغي. فهو كما ترى أمر مستحيل بطبيعته.
وهناك قول كثير ولكن حسبنا هذا لمن يريد لن يفهم فهماً، لا أن يردد الأقوال ترديد الببغاوات التي تباع وتشترى للأغراض الخبيثة التي تريدها إنجلترا بهذه البلاد المسكينة. فهذه المقابلة السخيفة بين مسألة الدانوب ومسألة النيل لا تدل على شيء إلا على جهل الناطق المردد لها، ولا تقوم حجة إلا على خبث النيات التي أخذت تدنس لتفرق أوصال هذا الوادي وتزايل بين روابطه التي لن تفصم، بإذن الله.
ونحن نحمد الله على أن الأحرار أهل السودان ليس لهم برأي أن يقطعوا أرحامهم، ويخربوا بيوتهم بأيديهم، ويمزقوا هذه الوشائج الممتدة من أقصى عهود التاريخ إلى يومنا هذا. فنحن نسوق الحديث إلى هذه الببغاوات التي تنتسب إلى الشعب الأبي الحر لعلها تفئ