للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

إلى الحق، وإلى الذين يهادنون في الحق الأبلج مخافة أن يقال إن مصر تريد أن تبسط سلطانها على السودان في زمن تنادي فيه الأمم بالحق الأبلج أيضاً في تقرير المصير. ولولا أن هذا كله تدليس خفي يراد أن تروع به القلوب، ثم يتغلغل خفية إلى معان بعيدة يراد بها قتل السودان ومصر جميعاً، لكان الرد عليه هو إهماله وازدراؤه.

إن هذا النيل الجاري بين الصحراء الشرقية والصحراء الغربية من أقصى الجنوب إلى أدنى الشمال يوجب أن يكون أمة واحدة، فليس مثله كمثل الدانوب. فإنه إذا قدر للسودان أن يكون وحده مستقلاً، وهذا بعد البعيد، أو تحت سلطان إنجلترا، وهو الشيء الحادث والذي يراد الإيغال في إقراره بفصله فصلاً تاماً عن مصر، فإن الخطر الداهم والداهية المصبوبة تكون على مصر جاثمة حاضرة في كل أوانٍ، فإن أسهل السهل أن تضارنا إنجلترا في ماء النيل، وأن تمنع عنا رفده متى شاءت وتتخذه سلاحاً مخوفاً مفزعاً وحشياً للتهديد والإرهاب بقطع مادة الحياة في مصر بل في الشرق الأوسط كله، فإن قحط مصر هو قحط الشق الأوسط، بل قحط جزء عظيم من حوض البحر الأبيض المتوسط. فإذا كان ذلك فبمن نستنجد؟ ومن أين نؤمل النصرة؟ برمال الصحراء الشرقية وسواقي الصحراء الغربية!! إنه إذا كان مثل ذلك في أي مكان من الدانوب لهبت أمم بأسرها - أمم صناعية - تدفع البغي دفعاً رادعاً راداً للحق مانعاً لاستمرار هذا البغي. أما مصر، ماذا تصنع أيها المأجورون للدسيسة الإنجليزية! أتدافع برجالٍ هدهم الجوع والظمأ والوباء؟ تعست الحماقة!

ولو كانت إنجلترا هي الأمة التي تسكن هذا الجزء من وادي النيل المسمى باسم مصر، لما ترددت ساعة واحدة من أجل هذا وحده أن تفتح السودان فتحاً وتنتهبه انتهاباً، وتحتج لفعلاتها فيه بكل حجة، لأن النيل حياة إذا جاء بمده، وموت إذا أمسك سيبه. وهذه إنجلترا نفسها ليس لها حجة في البقاء الذي تريده في الشرق الأوسط وفي قناة السويس وفي نواح أخرى كثيرة، إلا أنها إذا خليت جلبت على الإمبراطورية كل شرٍ، وقطعت شريان الحياة الذي يمدها بالطعام والمال والقوة والسلطان. أفيجوز في العقل أن تحتج إنجلترا بذلك في سبيل أن تبقى عند قناة السويس وفي فلسطين، ولا نحتج نحن بأضرارٍ محققة إذا كان في السودان إنسان واحد في يده قدرة على الإضرار بمصر إضراراً يصيب أبدان أهلها

<<  <  ج:
ص:  >  >>