للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أما هذه الأغنية التي أشرت إليها فتمثل هذا المعنى من ناحية أخرى ظريفة، وهي ارتباط الصناع وأرباب الأموال برباط وثيق، لا يمكن أن يستغني أحد عن أحد. وهاهي بعد حذف ديباجتها:

(وحصاني في الخزانة، والخزانة (عاوزة) سلم، والسلم عند النجار، والنجار عاوز مسمار، والمسمار عند الحداد، والحداد عوز بيضة، والبيضة في بطن الفرخة، والفرخة عاوزه قمحة، والقمحة عند القماح، والقماح عاوز فلوس، والفلوس عند الصريف، والصريف عاوز عصافير، والعصافير في الجنة، والجنة عاوزه حِنّا) الخ. . .

أغنية لطيفة حقاً، لا يزال أطفالنا إلى الآن يتغنون بها بتوقيعهم الظريف، وصوتهم الشجي، وهم إذ ينشدونها لم يدروا أنهم يتغنون بفلسفة عالية، وفكرة سامية

قد يلاحظ علنها أن الربط في بعضها محكم كحاجة السلم إلى النجار والنجار إلى المسمار، وبعضها غير محكم كحاجة الحداد إلى البيضة، وحاجة الصريف إلى العصافير، ولكن أظن أن تحكيم المنطق الدقيق الحاد في الأدب كالشعر والأغاني وسائر الفنون مجاوزة للحد، فالأغنية ظريفة لطيفة رغم المنطق

ومن أسباب جمالها هذا النوع البديع الذي يصح أن أسميه (جمال الدوران) أو جمال التسلسل مثل قولهم (لا سلطان إلا برجال، ولا رجال إلا بمال، ولا مال إلا بعمارة، ولا عمارة إلا بعدل)

وقولهم: (الحجر يكسر الزجاج، والحديد يكسر الحجر، والنار تذيب الحديد، والماء يطفئ النار، والريح تلعب بالماء، والإنسان يتقى الريح، والخوف يغلب الإنسان، والخمر تزيل الخوف، والنوم يغلب الخمر، والموت يغلب النوم)

ومثل قوله: (العالم يعرف الجاهل لأنه كان جاهلاً، والجاهل لا يعرف العالم لأنه لم يكن عالماً) الخ

وبعد فما تاريخ هذه الأغنية ومن واضعها؟ لابد أن يكون فيلسوفاً أو حكيماً بعيد النظر. ومما يؤسف له أن هذه الأغاني والأزجال والمواويل لم يعن عناية الأدب الأرستقراطي، فبينا يعني العلماء والأدباء بنسبة بيت الشعر إلى قائله، والقصيدة إلى منشئها، ويحتدم بينهم القتال على ذلك، إذا بنا لا نجد هذه العناية ولا بعضها في الأغاني والأزجال الشعبية، وهذا

<<  <  ج:
ص:  >  >>