للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

ذاك أن أكثر تلك الخرافات - على ما بها من وهم ومغالات - تحوي ما لا يحصر من صفات الجمال ومظاهر الروعة، ودلائل العظمة، وأحاديث البطولة والمخاطرة التي يغرم بها الطبع الإنساني، وصور الفضائل والرذائل، التي يرتاح الإنسان إلى رؤيتها مصورة معروضة، كما أن تلك الخرافات، بما تقص من وقائع بعيدة العهد وتعرض من مشاهد نازحة المزار، تروي في النفس حب البعيد والشغف بالماضي القديم والولوع بالمثل الأعلى، وهي النزعة التي تعرف في الإنجليزية بالرومانس؛ زد على ذلك أن استعارة مشاهد تلك الخرافات ووقائعها وأسماءها في الوصف، يكسب التشبيه قوة ووضوحاً. فما أجود قول امرئ القيس، وليت الشعراء أكثروا الضرب على وتيرته:

أيقتلني والمشرفيُّ مضاجعي ... ومسنونة زرق كأنياب أغوال؟

لذلك حفل الأدب الإنجليزي بالخرافات الإنجليزية، وما تحني من جسائم الأعمال وبدائع الصور، كحروب الملك أرثر ومغامرات فرسان المائدة المستديرة، تلك التي كانت وحياً لسبنسر وتنيسون في أجود قصيدهما. ولم يكتف الأدباء بخرافاتهم الوطنية، فاصطنعوا خرافات اليونان والرومان، وتحدثوا طويلاً عن آلهتهم واقتبسوا كثيراً من الإلياذة والأوديسة؛ وزاد غيرهم فاستعاروا خرافات كل من عرفوا أو سمعوا عنهم من أمم الغرب والشرق: فاتخذ ملتون لقصيدته الكبيرة سمسون الجبار موضوعاً عبرانياً، وتحدث تنيسون عن هارون الرشيد، وطار كولردج على جناح الخيال إلى قصر قبلاي خان عاهل الصين. أما شكسبير فاستعار مواضيع رواياته من كل ما أصاب من تراث الأمم لا فرق بين تاريخّيها وخرافيّها، ورصعها بما كان لا يزال يساور أهل جيله من اعتقاد في عجائب السحر والمعجزات.

ومن الأدباء من لم يكفه كل هذا المدد الزاخر من غرائب الأساطير وأفانين خيال الأقدمين، فأطلق لخياله هو نفسه العنان، وابتكر مواضيع لقصائده من صنعة الوهم، وحلاها بروائع الصور وممتع الخطرات، كما فعل كولردج في خريدته الملاح القديم، وبروننج في فريدته تشايلد رولاند، وتوماس هود في أنشودته أينس الحسناء، وكما صنع سويفت في كتابه العالمي الصيت (رحلات جليفر).

ألفى أدباء الإنجليزية في أرجاء تلك الخرافات، مجالاً رحباً لفنهم وخيالاً، وتحريراً

<<  <  ج:
ص:  >  >>